السبت 2017/07/29

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

روبرتو سافيانو الذي تطارده مافيا إيطالية وكارتيلات الكوكايين..

السبت 2017/07/29
روبرتو سافيانو الذي تطارده مافيا إيطالية وكارتيلات الكوكايين..
هو من دعاة تشريع الكوكايين.. وهذا ما تحاربه الكارتيلات نفسها
increase حجم الخط decrease
يجسد الصحافي الإيطالي روبرتو سافيانو بشكل يكاد يكون حرفياً، مقولة أن الصحافة مهنة البحث عن المتاعب. ليس المتاعب، بل الأخطار والمهالك، هو الذي يحيق به الموت في كل لحظة، متخفياً، هارباً من المافيا الإيطالية التي تبحث عنه لكي تنتقم منه.

المنظمة المافياوية النابولية الأشد ضراوة وفتكاً، كامورا، لن ترحمه إن عثرت على مخبئه. وسيكون الإنتقام فظيعاً بالتأكيد، فهو الذي تجرأ، من بين الكل، على تخطي الخطوط الحمر وفضح المنظمة بشكل لا سابق له، في كتابه الأشهر "غومورا" (لاعباً كما هو جلي على العلاقة اللفظية بين كامورا، اسم المنظمة المافياوية، وغومورا المدينة الملعونة التي ورد ذكرها في التوراة، والتي حلت عليها لعنة الرب فأهلكها). لقد فعل سافيانو ما لم يتجرأ على فعله أحد من الصحافيين من قبله، ولا من بعده، فنشر حقائق رهيبة وتفاصيل مرعبة عما تقوم به المنظمة في سعيها الجهنمي لجني المال.

بعد ذلك أصدر كتاباً صغيراً بعنوان: "إيل كونتراريو ديللا مورتي" (عكس الموت)، عن جندي إيطالي ذهب إلى أفغانستان فقتل هناك على أيدي مقاتلي الطالبان. كان الجندي الشاب قد وعد خطيبته، حين إلتحق بالجيش، بأن يتزوجها فور عودته لأن الأموال التي سيحصل عليها مقابل مهمته في الذهاب إلى أفغانستان ستكون كافية لكي يشتري بيتاً ويؤثثه ويستقر فيه مع زوجته. غير أن الحلم تحول إلى كابوس مميت، بالفعل وليس على سبيل الإستعارة اللغوية، لم يفق منه الجندي اليافع، وتحولت خطيبته إلى أرملة صغيرة ترتدي الأسود في اليوم الذي كان من المفروض أن يأتي فيه خطيبها.

في الكتاب ينتقد سافيانو بشدة الحكومة الإيطالية، والإدارات البيروقراطية والبنوك التي رفضت أن تمنح الفتى قرضاً لشراء البيت ما دفعه للالتحاق بالجيش، ومن ثم الموت بطريقة رهيبة. هكذا جنى سافيانو نقمة جديدة، واكتسب أعداء جدد: أقطاب من الحكومة الإيطالية هذه المرة.
 وكما لو أنه استساغ اللعب في الأماكن الخطرة وإدخال يده في جحور الثعابين والرقص مع الذئاب، توجه أخيراً صوب التجارة الأكثر خطورة: الكوكايين. ليس في إيطاليا وحدها بل على امتداد الكرة الأرضية، ودوّن ذلك في كتاب عنونه: "زيرو زيرو زيرو"(صفر صفر صفر).

كما في كل نصوصه، هنا أيضاً عمد الصحافي المحترف، بعمق وأناقة، إلى جمع عدد هائل من الأدلة والشواهد والوثائق والقصص والمرويات. وهو تفوق في الربط في ما بينها، ربطاً محكماً لاستخلاص الدروس والخلاصات.

هو يعمد، في كل مرة، إلى النزول إلى ميدان العمليات، أي تلك الباحات الخلفية التي تجري فيها الوقائع، متقمصاً أدواراً ومرتدياً أقنعة، مغامراً ومخاطراً بحياته، من أجل أن يوفر للقارئ رواية متماسكة، صارخة، طافحة بالحقائق.

سافر من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة ليتتبع سير التجارة المميتة للكوكايين وأجرى لقاءات مع الرؤوس الكبيرة من أل شابو غوزمان المكسيكي، إلى سيميون موغيليفيتش الروسي، ومن بابلو إسكوبار الكولومبي، إلى أصغر بائع في شوارع أوروبا.

أطنان هائلة تشحن يومياً ومليارات الدولارات تجنى. قصص، حوادث، أرقام، وقائع. شخصيات، قراصنة، قوائم مطلوبين، إغتيالات، تصفيات، ملاحقات، جرائم، أساليب تهريب، طرق تملص من البوليس….الخ. يتابع كل ذلك بدقة وتمحيث وطول بال لا يمل.

توصل إلى القناعة التي تقول أن ثمة علاقة وثيقة بين العالم السري، المعقد، المحكم البنيان، لتجارة المخدرات والعالم العلني، المكشوف، للسياسة. فإذا استطعنا أن نفهم آليات عمل تجارة الكوكايين، أمكن لنا أن نستوعب كواليس السياسة ونوازع الربح، لنأخذ بالتالي صورة عن العالم الذي نعيش فيه. تجارة الكوكايين ليست عمليات جشع فردية بل هي شبكة واسعة من الإجراءات تغطي العالم كله وتمتد من كارتلات أميركا اللاتينية إلى مافيات إيطاليا مروراً بدكتاتوريات إفريقيا وآسيا.

ليست هناك تجارة أكثر دينامية وتجدداً وإخلاصاً لروح السوق الحرة من تجارة الكوكايين. هي تجارة ثورية، عالمية، تتحكم بروح الكرة الأرضية، وتسري في شرايينها. فإفريقيا السوداء تختفي تحت بساط من الثلج الأبيض، وآسيا تهب وتنهض وتتراقص على وقع استنشاق الذهب الأبيض، وأوروبا تنتشي وتغفو بسحره.

سافيانو يعتبر أن حظر الكوكايين وتجريم استعماله يؤديان، بطريقة مقصودة، إلى ازدهار هذه التجارة. هو من أشد الداعين إلى إباحة تعاطيه، وفي رأيه أن الطغمة الجبارة من رجال المافيا والكارتلات والمهربين والبائعين الصغار، كلها ستختفي في لحظة واحدة إذا ما تم تشريع تعاطي الكوكايين. عدم تشريعه يعني أن هناك ناس يستفيدون من الوضع القائم بشكل أسطوري وأنهم هم من يمنعون القيام بهذا الأمر، أي التشريع.

كان الكولومبي بابلو أسكوبار واحداً من هؤلاء. وهو توصل إلى استنتاج خلاصته أنه ليس على عالم الكوكايين أن يدور في فلك الأسواق، بل على عالم الأسواق أن يدور في فلك الكوكايين.

ويحلل سافيانو الأمر كما لو كان يتعلق بدرس في الإقتصاد، ذلك أن إستيعاب ديناميات العمل لرأس المال الكوكاييني، يساعد في فهم ديناميات التجارة العالمية، أي العولمة.

وكان إسكوبار، الذي ألقي القبض عليه بعد صدور كتاب سافيانو، عقلاً مفكراً لتجارة الكوكايين ومدبراً للجرائم التي ترتكب على مذبحه. كان، على حد قول سافيانو، كوبرنيكوس الجريمة المنظمة.

غير أن الأمر لا يتعلق بشخص واحد ولا حتى بأشخاص كثر. إنه مرتبط بالسوق والعرض والطلب، أي بآليات إشتغال النظام الرأسمالي برمته. الرأسمالية بحاجة إلى نقابات مجرمة وسوق إجرام. لقد أصبح أمراً شائعاً ومقبولاً وجود سوقَين متوازيتين. السوق العادية الشرعية المفتوحة، والسوق السوداء غير الشرعية المخفية. كلتاهما سوق، ولهما آليات وضوابط ودوافع الجشع الرأسمالي. إن رئيس عصابة تهريب مخدرات ليس مجرماً بل هو رجل أعمال في سوق لها عاداتها وطرقها وأساليب عملها التي تتعارض، أحياناً، مع تلك السائدة في السوق البيضاء. تشغل السوق السوداء مساحة هائلة من سوق التجارة العالمية، وتتمتع بثقل كبير فيها.

ومواهب ومكانة وقيمة وأهمية رجال المخدرات لا تقل عن تلك التي يتمتع بها رجال الأعمال الآخرون، مدراء المصارف وأرباب العمل الكبار والمقاولون والمضاربون في البورصة.

الكوكايين هو، والحال هذا، سلعة مثل السلع الأخرى التي تنتج الرأسمال. ومثل السلع التي تنهض عليها الرأسمالية فإنه، بوصفه سلعة، يكرس آليات السوق الرأسمالية ويرسخ معادلتها: المزيد من إفقار الكثرة من أجل إغناء القلة. في السوق، الكوكايين سلعة مهمة وذات قيمة جبارة، وهي بالنسبة للتجار ملاذ آمن شأن الذهب والبترول بل ربما أكثر.

آليات عمل مافيات الكوكايين هي آليات عمل رأس المال: اختيار الأكثر كفاءة وموهبة في إدارة الأعمال من أجل تحقيق المزيد من الربح. هنا يسود منطق دارويني: من يخطئ ويتعثر، يقتل ويستبدل بآخر أقوى وأشرس. لا مجال للخطأ أبداً. لا مجال للعواطف والرحمة. كل شيء مباح من أجل الربح. وسيسحق كل من يقف في طريق الحصول عليه.

لكي نفهم تجارة الكوكايين يترتب علينا أن نفهم العالم الراهن: الحداثة والعولمة. وفي المقابل لن يكون في وسعنا أن نفهم آليات اشتغال الإقتصاد العالمي الحديث، ما لم نفهم آليات عمل تجارة المخدرات.

الآن أضيفت أسماء جديدة إلى قائمة مطاردي سافيانو: تجار الكوكايين. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها