الجمعة 2017/07/14

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

إسكندر بيك ومسجده

الجمعة 2017/07/14
إسكندر بيك ومسجده
إسكندر بيك أحد نبلاء ألبانيا
increase حجم الخط decrease
الأمر الأكثر إثارة للإنتباه، عند الدخول إلي الميدان الرئيس في العاصمة الألبانية تيرانا، هو موقع تمثال إسكندر بيك، الذي يحمل الميدان اسم صاحبه. ففي الساحة التي يحد أحد أضلاعها مسجد وكنيسة متقابلان، كما هي العادة في ميادين المدن الألبانية، يمتطي إسكندر بيك على صهوة حصانه، على مسافة قصيرة، من المسجد العتيق للمدينة. لكن البيك، الذي فر من الخدمة في جيوش العثمانيين، وقاد تمرداً طويلاً ضدهم، في منتصف القرن الخامس العاشر، وأصبح لاحقاً مع رايته الحمراء ونسرها ذي الرأسين رمزاً للقومية الألبانية، يبدو مناسباً له موقع على مقربة من الكنيسة لا المسجد، أو ربما بالأولى أمام متحف التاريخ الوطني الذي تهيمن ضخامة مبناه على الميدان. فاسكندر، والمعروف أيضا باسم جورج كاستريوت، والذي لطالما أشارت إليه الوثائق العثمانية بـ"المرتد" بعد تحالفه مع بابا روما لشن حملة صليبية لم يكتب لها النجاح ضد العثمانيين، لا يقل موقع تمثاله إلتباساً عن موضعه كمحور للهوية الألبانية، في بلد يدين غالبية سكانه بالإسلام.

للوهلة الأولى تظهر الهندسة البصرية للساحة ونصبها، متماشية مع منطق الهوية الألبانية الحديثة، التي سبكت في خضم الصراع ضد العثمانيين نهاية القرن التاسع عشر، والذي انتهى بإعلان الإستقلال العام 1912. فترسيخ ملحمة إسكندر بيك كان معنياً بأن يلعب دوراً جوهرياً في تأجيج المشاعر الوطنية ضد المحتل العثماني، فيما كانت لمركزية اسطورته في الوعي الوطني الحديث، نزع الديني عن القومي وتحييده في الهوية الجمعية للألبان، وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في أن تصبح ألبانيا واحدة من أكثر دول أقليم البلقان المضطرب، تسامحاً دينياً وتعايشاً.

 لكن ذلك الإنطباع الأول سرعان ما يفقد منطقه بمجرد الدخول إلى المتحف الوطني، فالطابق الأول الذي يحوي معروضات تبدأ من العصر البرونزي، وآثاراً يونانية ورومانية للإيليروين، وهي الشعوب التي سكنت "ألبانيا الكبرى"، يبدو معنياً بالتأكيد على أوروبية الألبان وانتسابهم إلى أصول الحضارة الغربية، في أكثر صورها نقاء وتاريخية، في مواجهة تأطيرهم بوصفهم دخلاء عليها، وغرباء عنها، كونهم مسلمين. لكن الطابق التالي، والذي خصص لأسكندر بيك ومعاركه، ومخطوطات أوروبية تحتفي بدوره في الوقوف أمام التوسع العثماني في اوروبا، يتبعه مباشرة دور عن مرحلة الإستقلال في القرن العشرين، والذي يحتوى أيضاً قسما عن المرحلة الشيوعية وضحاياها. يسقط المتحف عمداً فترة الحكم العثماني بين القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين، بالكامل، من دون عرض ولو قطعة واحدة من الفن الإسلامي، أو تسجيل تاريخي مختصر لأوضاع البلاد تحت العثمانيين. هكذا يبدو التاريخ الألباني وكأنه معركة متواصلة لمقاومة دخول العثمانيين، ولاحقاً معركة للاستقلال عنهم، فيما يهيمن الصمت على أكثر من ثلاثة قرون كاملة بينهما.

لكن التعامي عن الحقبة العثمانية، التي نال فيها الألبان أفضلية استثنائية في جيش السلطنة وحكم ولاياتها من وسط أوروبا إلى شمال إفريقيا، ليست محاولة لتحييد الدين إجمالاً. فهناك قسم مخصص للأم تيريزا، والتي يحمل الميدان الثاني بالعاصمة اسمها، وكذا الطابق الأخير من المتحف والذي يحوي هيكلاً متكاملاً لكنيسة ألبانية مع إيقوناتها، بالإضافة إلي عدد من المعروضات لقادة معركة الإستقلال الحديثة من رجال الدين الأرثوذوكس والكاثوليك، (من دون ذكر لرجال الدين الإسلامي الذين ساهموا أيضاً في قيادة حركة الإستقلال) ينفي أي تحرج من الاحتفاء بالتراث الديني، أو على الأدق بعضه، وتمجيد أبطاله المعاصرين. هكذا، فيما يبدو مسجد وكنيسة ميدان إسكندر بك، ترسيخاً متعمداً للتعايش الديني والهوية الوطنية الجامعة، فإن موقع تمثاله لا يبدو معنياً بالإيحاء بتجاوره مع المسجد وما يمثله، ولا حتى في انتصابه في مواجهته، بل حاجباً الرؤية عنه، فالبيك الذي يولي ظهره لمسجد الميدان، يظهر وكأنه قد تركه وراءه، مغادراً حقبته حتى قبل أن تبدأ.

بلا شك، نجح الآباء المؤسسون للأمة الألبانية من قادة حركة إستقلالها، والذين كانت غالبيتهم من العلمانيين وأصحاب التعليم الأوروبي، في خلق هوية جمعية مكنت إبناء وطنهم من التعايش، في بلد كتب له أن تكون أراضيه الحد الفاصل في ساحة المعركة بين روما والقسطنطينية ومعارك باباوات الأولى وبطاركة الثانية، ولاحقاً خط التماس في حروب العثمانيين مع أوروبا.

يبقى التسامح اللألباني استثناء جديراً بالغبطة في اقليم البلقان الذي لطالما مزقته الصراعات الأثنية والدينية. لكن في الوقت نفسه، فإن تلك الهوية، والتي تقبل بالمسجد جنباً إلى جنب مع إسكندر بيك أو تفرض تجاورهما قسراً، لا تخلو من إشكاليات تنافراتها الداخلية، كاشفة عن آليات فقدان الذاكرة التاريخية العمد، وعن الطبيعة المختلقة للهويات الوطنية للدول الحديثة إجمالاً، وكذا هو تأكيد آخر على دور الميدان والمتحف في تجسيد إيديولوجياتها عياناً وترسيخها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها