الخميس 2017/07/13

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

طبعاً الدولة موجودة

الخميس 2017/07/13
طبعاً الدولة موجودة
غرافيتي الحراك المدني اللبناني في ملف النفايات العام 2015 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
عجباً ممّن ما زال يتساءل في لبنان: "وين هي الدولة"؟

الدولة موجودة، موجودة جداً. منظّمة، مهيكلة، متماسكة، قوية. قوية بالفعل، ولا مزاح في هذه الأمور، فهي تبسط نفوذها "مستخدمةً" القانون. الدولة حاضرة، موحّدة الآن أكثر من أي وقت مضى، فاعلة، واعية، مدركة. سريعة الحركة حين تقرر الحركة. وحين تقرر اتخاذ وضعية المزهرية، فإنها لا تلين ولا تساوم في تنفيذ قرارها حتى النهاية... نهاية مَن وماذا؟ الدولة تعرف، فلا صدفة ولا عشوائية ولا ارتجال.

الدولة ههنا، بيننا، وتَحكُم. هي التي أصدر قضاؤها قراراً بمعاينة جثث الموقوفين السوريين الأربعة الذين "توفوا" بسبب "ظروف مناخية" وأمراض وعقاقير سابقة على الاعتقال، على ما أفاد الجيش اللبناني بعد مداهمته مخيم اللاجئين السوريين في عرسال. القضاء أجاز التحقيق والتشريح وأخذ العينات، ومخابرات الجيش طوّقت المستشفى وعرقلت عمل المحامية ديالا شحادة المولجة بتنفيذ القرار القضائي المذكور.

الدولة تنشط، ولها القدرة، قراراً وتنفيذاً، لتؤجل محاكمة طارق يتيم المتهم بقتل جورج الريف في وضح النهار، وتؤجل محاكمة الشيخ أحمد الأسير، والموقوفين الإسلاميين، وعشرات المعتدين على زوجاتهم وأولادهم، وبعض المعتدين قتَلة. الدولة موجودة. تعتقل مطلقي رصاص الابتهاج، وتخرجهم بعد أيام. وتستدعي صحافيين وكتّاباً، وناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، لتحاسبهم على آرائهم، وتدفّعهم أثمان منشوراتهم ومواقفهم، بالغرامة أو الحبس، أو قَرص الآذان مصحوباً بالتقريع: إعتذر يا ولد! تعلَم بفيديوهات ومنشورات التحريض على إعلاميين، بما يقارب القتل المعنوي، لكنها، عندئذ، تملك قدرة خارقة على الثبات في أجمل القوالب الصنَمية بلا كلل أو ملل. للدولة سياستها، تعبّر عن مكوّناتها، ما يعني أنها حتماً موجودة.

الدولة لم تعجز في ملف النفايات. هذا وَهْم ساذج. الدولتيون يتمهلون، يخططون، لأن مشروعاً كهذا لا يمكن أن يمرّ بلا غمس الأصابع، والطبخة لم تنضج بعد، والحصص في النهاية لمَن يا أخوة؟ لمكوّنات الدولة، أي لزعماء الطوائف، أي انها بالتالي ستتسرّب إلى أبناء الطوائف، يعني إلى المواطنين الذين سيحظون بخدمات، وغالباً عبر الدولة ومنها، أي أن الدولة لا تتخلى عن رعاياها/رعيتها/مَرَاعيها. لا شلل في الدولة، ومجموع عملها ليس صِفراً، بل حاصل المحاصصة التي، إن لم يتسنّ التوافق على حساباتها، توقّفت عمليات الجمع والطرح والتقسيم، وبدأ العمل بالضرب، وهذا أيضاً إنتاج، والإنتاج مضاد العطالة، دليل عجلة تدور.  

أنجزت الدولة قانون انتخابات لا مثيل له في العالَم، حرفياً. لا تصوّت حكومتها على شيء تقريباً. كله بالتوافق، بما في ذلك الأمن. تكتّلت أحزابها ففازت بانتخابات نقابة المعلمين. تعلّمت من "أخطائها" في نقابة المهندسين. والحيّ وحده هو الذي يتعلم. الحيّ وحده هو الذي يفكّر. والتفكير الآن في كيفية التنسيق مع نظام بشار الأسد لإعادة اللاجئين السوريين، وإن كان الأرجح أنه هو نفسه لا يريد ذلك، ناهيك عن البشر المعنيين بخطط العودة. وحده القوي، القادر، ينتهك الحقوق والإنسانية. ولا نار بلا فاعل، والنار في خِيم العُزَّل تسقط ضحايا، بينهم أطفال. فالدولة اللبنانية فاعلة إذن، وتستجلب بواخر تشرقط بالكهرباء، رغماً عن أنوف المعترضين من غير المستفيدين.

الدولة موجودة، وإلا فلِمَن تُدفع الضرائب؟ ضريبة الدخل، والقيمة المضافة، والبلدية، وفواتير الماء والكهرباء والهاتف والانترنت؟ تراجُع الخدمات، وأحياناً اختفاؤها، لا ينتقص من حضور الدولة، بدليل أن الأسعار ترتفع.. فهل ترتفع هكذا من تلقائها؟ كأنك تقول إن الكون خُلق بلا خالق. وسلسلة الرتب والرواتب، مَن يعلّقها؟ ومَن يفذلك تمويلها؟ ومَن يُلزمنا بها في النهاية؟ مَن يحمي كارتيلات المولّدات والكابل وصهاريج المياه؟ ورأفة بمَن سوى بالمواطن الذي لا بدّ أن يؤمن أساسيات عيشه؟ الطرق المحفّرة، والغارقة في المياه شتاءً، لا تنفي الدولة. ولا حتى الشرطي الذي لا يَمون على دراجة نارية تئزّ بعكس السير، ولا يوقف سيارة "مفيّمة" الزجاج تتجاوز الإشارة الحمراء. نفي الدولة، هنا، جهل محض. ومَن يقول غير ذلك يكون غارقاً بدوره في حالة نكران، وإلا فليتفضل بالإجابة على سؤال بسيط: إلا تجد يا محترم ورقة مخالفة على سيارتك إن ركنتها لوقت أطول مما اشتريت من ماكينة "البارك ميتر"؟ ألا تُعاقَب بغرامة إن تخلّفت عن تسديد قيمة المخالفة خلال المهلة، المحددة في تذكرة المخالفة بكل وضوح وأناقة؟ 

بلى، طبعاً، عندنا دولة. هزمت قوى المجتمع المدني مراراً. بل ولّفت "مدنييها" و"أهاليها" الذين يضربون بسيوف أساتذتها وشيوخها وسيّادها. مدّدت لمجلس "نوابنا" مراراً، وبنجاح كبير. حتى الفراغ الرئاسي لأكثر من عامين كان بقدرة الدولة (العميقة؟). بلى، عندنا دولة، تمنع الأفلام، وأحياناً تقصقصها، وتفرض على الفنانين استصدار إجازة عرض مسبقة لأعمالهم، وقد تستدعيهم للتحقيق وتمنع انتاجهم إن ولّفوا عملاً فنياً ينتقد الرقابة، أو يمسّ بـ"دولة صديقة". فالهَيبة إثباتٌ للوجود.

إن لم تستنكر الدولة خطاب أمين عام "حزب الله" بشأن استقدام مقاتلين من الخارج "للدفاع عن سوريا ولبنان" في حالة اعتداء إسرائيلي، وإن لم تتوقف عند قوله بأن "جهود الجيش اللبناني والمقاومة في عرسال خففت الكثير من المخاطر، لكن المخاطر لا تزال قائمة... وعندما تتحمل الدولة اللبنانية مسؤوليتها نكون من داعميها، وإذا كانوا لا يريدون ذلك فلن نبقى في بيوتنا"... فهذا لا يعني أن الدولة مغيّبة، إذ عجَّل الله فَرَجَها بالفعل، وقدّرها على حُسن تدبير "الدعم"، ليكون جيشها في الصدارة، ورمزاً وطنياً يستبق الإرهاب ويرديه.. في مهده.

بلى، عندنا دولة، ودولة ذات بأس. تختار، وبِعِناد، ألا تحقّق في شبهات اختلاس مساعدات دولية تسلَّمها رجال الدولة، ورجالهم في ما هبّ ودبّ من الجمعيات، لتمريرها إلى اللاجئين السوريين. تختار، وتلتزم بخيارها، مهما ناءت البلدات المضيفة للاجئين بفقرها وعوزها، من قبل ومن بعد. بل وربما تتبنّى، في معظمها، الخطاب المنقوص الذي يجرّم اللاجئين كقطّاع طرق يُمنع تجولهم ليلاً، وككتلة صماء منمّطة هي عبء "إرهابي" واقتصادي وخدماتي، من دون الاعتراف بـ"فوائدهم" الاقتصادية، وبأن المشاكل اللبنانية أقدم من لجوئهم بأزمان. لا تخيفها الكراهية، ولا يقلقها تفشّي لغة عنصرية، أو حتى التشبيح باسمها في مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام. بيد أنها تسارع إلى التفاوض لتخفيف العقوبات المصرفية الدولية التي تسبب فيها حزب لبناني مسلّح، ومقاتل عبر الحدود، ومتورط في مافيات مخدرات وسلاح في أنحاء العالم. ذلك أن الدولة ذكية، تفهم الرسائل، وتفك الشيفرات المتفجّرة. والذكاء أيضاً إثبات وُجود.

لعلها ليست صدفة أن كلمتي power وauthority لهما مرادف واحد بالعربية: "السُلطة". وباللبناني الدارج: الدولة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها