الثلاثاء 2017/07/11

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

"أنا وهو" لمورافيا... حين يحتل الجنس القراءة

الثلاثاء 2017/07/11
"أنا وهو" لمورافيا... حين يحتل الجنس القراءة
الجنس في "انا وهو" شكل مرحلة جديدة في اسلوب مورافيا الروائي
increase حجم الخط decrease
لا أخفي أني حين قرأت رواية "أنا وهو" للكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا، في بداية التسعينيات، بدا كأني أكتشف نفسي ولا أقرأ الأدب، أو بمعنى آخر غطى الجنس بشكله الوارد في الرواية ما عداه من جماليات في الكتابة والاسلوب. كنت أقرا بغريزتي ليس بعقلي، أقرأ كأنني أبحث عن الجنس بحد ذاته وليس عن جوهر القصة وفحواها. ضحكتُ نسبياً وأنا أتابع صراع بطل الرواية مع عضوه الجنسي في كل شيء، لكني لم أكن اقرأ بالمعنى النفسي والطقسي للقراءة. أمرّ عابراً على السرد، وحين أصل الى الجنس أتوقف، أخذتني حواسي نحو متاهاتها، وربما عشت الصراع نفسه الذي في رواية مورافيا. فعقلي يريد القراءة، ورغبتي تريد أشياء اخرى. وبعد مرور نحو عقدين على القراءة الأولى، أعيد اليوم قراءة رواية من منظور مختلف وزمن مختلف، إذ لم يعد الجنس "كنزاً" أبحث عنه بين السطور وفي الكلمات، بل بات جزءاً روتينيا من مشاهدها... تتحررت قراءتي من نوازع جموح العواطف والحواس والرغبات الدفينة لمصلحة التأمل في فن الكتابة وتمرينها، وبت أشعر بملل من أي سرد جنسي حتى لو كان في روايات هنري ميلر أو بوكوفسكي أو كتاب "رجوع الشيخ الى صباه"... 

رواية "أنا وهو" التي كتبت بأسلوب تراجيكي - كوميكي تبرز حال انفصام بين النفس والجسد، بين الروح والمادة، بين تسامي الحياة وانحطاطها، طالما وضعتها في خانة روايات ذاكرتي والتي لا يمكن نسيانها، مثل "الجميلات النائمات" لكواباتا أو "المسخ" لكافكا... اليوم لم أعد اجدها رواية عن الجنس، أو هي رواية عن الجنس من منطق مختلف، هي ثرثرة ممتعة وكوميدية وخارقة في فكرتها ودونكشوتيتها... يقول مورافيا في حوار أجري معه، أن لريكو(بطل الرواية) هوساً فكرياً يحاول تطبيقه في الواقع. لكن الواقع يتمرد. ومن هنا الكوميكية. وأن لدون كيشوت، إذا أردنا تقديم مثال كبير، هوساً فكرياً في الفروسية الهائمة الرحالة، وعندما يسعى لتطبيقها في الواقع العملي يصطدم بصورة كوميكية مع هذا الواقع المتمرد. وفي حوار آخر أجراه معه جليل العطية في مجلة "أقلام" قال مورافيا: "لقد شعرت بالحاجة الى كتاب كوميكي عن شخصية المثقف، الذي هو غالباً البطل التراجيدي في رواياتي، وهو مثقف كوميدي لاعتقادة بقدرته الجنسية الخارقة"، هذه هي الصورة العامة عن رواية خارقة ولديها وقعها...

والحال انه لطالما اتُّهم مورافيا باصراره على موضوع الجنس، لكنه في "أنا وهو" طرحه في أفصح صوره وأكثرها دلالة. لقد طرح مورافيا موضوع الجنس في أكثر صوره عرياً: جعله إنساناً يتكلم ويسمع ويرى، ثم ضمّنه بعدها نفساً، بل جسد إنسان آخر، هو نقيض الأول ومثيله في آن، وأشعل بين الاثنين صراعاً لا ينتهي. والحال أن النقاد يجمعون على اعتبار الجنس في "انا وهو" شكل مرحلة جديدة في اسلوب مورافيا الروائي، يختلف عن أسلوبه السابق في "السأم" و"الاحتقار" و"الانتباه" وسواها، بالرغم من أن موضوع الجنس يطغى عليها جميعاً. لكن الجنس هنا ليس عضواً من الجسم بقدر ما هو شخصية ذات كيان يقوم بينها وبين "الأنا" الفرويدية صراع يعبر عن انفصام البطل الشيزوفرانيا. فـ"الأنا" رجل يعمل في ميدان السينما ويطمح الى وضع سيناريو فيلم مناصر للحركة اليسارية، لكن "الآخر" الذي هو رغبته الجنسية، يقف عقبة أداء في سبيل تحقيق آماله بما يفرضه عليه من مطالب.

ان ريكو، بطل الرواية، هو انسان مقهور، مغلوب على امره، مسفل، لكنه طموح. يطمح الى التغلب على وضعه وأخذ حياته بيده وتسيير نفسه وضبط آلياتها. إنه يطمح الى التصعيد. هذا التصعيد الذي انطلق من معناه الفرويدي الأصلي، كتصعيد للطاقة الجنسية لدى الانسان وحملها الى مستوى الابداع الفني، ليأخذ بعدها شيئا فشيئا، خلال الرواية، معنى يزداد اتساعاً وشمولاً، وهكذا تروي القصة أحداث صراع ريكو مع شخصيته الثانية. ويعتبر مورافيا نفسه في هذه الرواية واقعيا جدا حتى من حيث مواجهته لفرويد وماركس معاً، وريكو...

وإذا كان مترجم الكتاب كتب في المقدمة بأن واقعية مورافيا توحد بين الاسلوب والموضوع، لذلك فإن أهم ما يوصى به قارئنا العربي البعيد عن هذا العالم، هو الا يترك نفسه تستهجن ما يقرأ... ومع ذلك نجد من العرب من يكتب عن "أنا وهو" بأنها "أبشع مثال عن الانحدار الخلقي الذي وصل اليه الغرب"...


(*)صدرت الرواية في طبعتها الاولى عن دار الآداب، وفي طبعتها الثانية عن منشورات الجمل.

(**) ولد مورافيا لأب يهودي وأم كاثوليكية العام 1907 في روما التي لم يغادرها إلا لجولات بسيطة في كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية العام 1967، وبعض مناطق القبائل الإفريقية العام 1972، وهيروشيما - اليابان العام 1982. لم يكمل تعليمه بعدما أصابه السل في صباه وألزمه السرير لأكثر من خمس سنوات، لكنه بدأ مشواره العملي كصحافي في مجلة "900" التي نشر فيها أولى قصصه. امتازت أعماله بالرصد الواقعي والقدرة على النفاذ إلى أعماق النفس البشرية عبر التحليل النفسي للشخوص. ترجمت أعماله إلى كثير من اللغات الحية، وتحول معظمها إلى أعمال سينمائية..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها