الإثنين 2017/06/05

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

سينما رضوان الكاشف الذي رحل يوم "النكسة"

الإثنين 2017/06/05
increase حجم الخط decrease
ولد المخرج رضوان الكاشف، بعد أيام من اندلاع ثورة يوليو 1952، ورحل في الذكرى الـ35 لنكسة يونيو 1967. وفي حين يبدو الربط بين دلالات التاريخين، وبين السيرة الفنية التي صنعها الكاشف، حتميًا، فإن رابطاً آخر يشغلني، قد يبدو ساذجًا، لكنه يخصه ويشبهني.

تعرفتُ إلى السيرة الذاتية لرضوان الكاشف (6 أغسطس 1952 – 5 يونيو 2002) أولًا قبل مشاهدة أعماله. كنت داخلًا إلى الأدب بصدر واسع، كأي حديث عهد بالفنون، أبحث عمّن أربط مصيري الأدبي بمشواره الإبداعي. حينها، برز اسمه أمامي، ربما ذكره صديق بينما يشير إلى رجل يُطَير الحمام فوق سطوح مقابل، وربما قال أيضًا إن صاحب الطيور يشبه بطل فيلم "الساحر"، وأن الكاشف لا بد قد عاش في منطقة مثل التي نعيش فيها، وأنه أفضل من عبّر عن حياتنا في أفلامه. لكن ذلك الحوار لم يدفعني إلى التعلق به، فقط حفزني على البحث عن سيرته التي لا أعرف منها غير اسمه. عرفت أنه مات في سن الخمسين بعد، مخلّفاً وراءه ثلاثة أفلام روائية فقط. حينها حزنت بشدة، فقد ولد في يوم ستة، وولدت في اليوم الثامن من الشهر نفسه، فهل سأموت صغيرًا ولا أترك خلفي سوى نصوص أدبية معدودة؟!


في ذلك اليوم البعيد، ألهمتني سيرة الكاشف بالكثير. ينتمي كلانا إلى البرج الفلكي نفسه، وربما نتشارك الطباع ذاتها وطريقة التفكير. وثلاثة أفلام مميزة، مثلما تخبر سيرته، "أبرك" من مئة لم تحدث أثرًا، فضلاً عن الإطار الزمني المميز الذي يربط بين ميلاده ووفاته، وكأنه ولد ومات في اليوم نفسه. جاء إلى الدنيا مع الفجر (اندلاع الثورة) ورحل في المساء (ذكرى النكسة). ولأن الثامن من أغسطس 1988 الذي ولدت فيه، لم يتسع لحوادث كبرى، فلا يجب علي أن أبحث عن مساء أموت فيه، ربما يكون حظي من السحر أن أرحل في ذكرى ميلادي. وكنتيجة حتمية لتلك الاستنتاجات كلها بدأت في مشاهدة أفلامه لأرى الشكل الذي سيبدو عليه منجزي الإبداعي!

اليوم، بمرور 15 عاماً على رحيل رضوان الكاشف، أتذكر هواجسي الساذجة، فأدرك أنني بالفعل أشبههُ، بل أكثر، فقد عشت حياته نفسها.

يقول صاحب "الساحر" إن "أفلامي لازم تشبهني"، وأن "ما أبحث عنه في اللغة السينمائية، هو أن تكون لغة قريبة إلى ثقافتي وإلى روحي وقلبي". وتشبهني أفلامه، ولست الوحيد الذي يملك الشعور بالطبع. فهذه الحارة في "ليه يا بنفسج"، التي يعيش أهلها مفتوحة حياتهم على بعضهم البعض، هي ذاتها العمارة السكنية التي نشأت فيها، وأكاد مع كل مشهد في هذا الفيلم الجميل أن أقول إني أعرف هؤلاء الناس وأنني خبرت حكاياتهم حتى وإن لم أحتك بها مباشرة. فالحياة في فيلم "الساحر"، فيها من الأصالة إلى درجة تجعل المُشاهد، أي مُشاهد، يتماهى معها من دون أن يشعر بغرابة ما يطرحه مهما بدا مدهشًا، لأنها تصنع واقعًا يقبل الإنسان بتقلباته كبريء مظلوم ومذنب كامل الإدانة في الوقت نفسه.


ربما مكّنت دراسة الفلسفة، الكاشف، من تحليل الواقع بشكل أعمق، وساعدته قدرته تلك في صوغ عالم يستوعب تناقضات الحياة وتقلباتها. إذ درس الفلسفة في بداية حياته، وأنجز دراستين في مجالها، الأولى عن خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم، تحت عنوان "الحرية والعدالة في فكر عبد الله النديم"، والثانية بعنوان "قضية تجديد الفكر عند زكي نجيب محمود"، ثم اتجه إلى دراسة السينما وتخرج في معهدها العالي العام 1984، ليبدأ مشواره السينمائي الذي امتد نحو 18عامًا، عمل خلالها  مساعدًا لمخرجين بارزين مثل يوسف شاهين ورأفت الميهي وداود عبد السيد، وأخرج سبعة أفلام، ثلاثة تسجيلية هي: "الحياة اليومية لبائع متجول"، و"الورشة"، و"نساء من الزمن الصعب".. وثلاثة روائية طويلة، هي: "ليه يا بنفسج"، و"عرق البلح"، و"الساحر".. وواحد روائي قصير، هو "الجنوبية" وكان مشروع تخرجه من المعهد.

وتُعتبر الواقعية هي إطار سينما الكاشف بشكل عام، حتى وإن صنف البعض فيلمه "عرق البلح"، من فئة الواقعية السحرية، لكني أتخيل أن الكاشف في هذا الفيلم لم يحد عن واقعيته، بالرغم مما قد يوحي به عالم الفيلم الأسطوري، إلا أن تلك الأسطورية مردها التزامه بواقع سرد "الجدة"، راوية الحكاية، والتي بدت خلال أحداث الشريط السينمائي كمن "تصنع الأسطورة بالفطرة".

كما أنني أختلف أيضًا مع من يعتبر ذلك الفيلم درة أعمال المخرج، وإن أوحت شاعرية الحوار الذي صاغه رضوان الكاشف، بذلك. لكن أكثر أفلامه نضجًا هو "الساحر"، فالمتدبر للأفلام الروائية الثلاثة، يلحظ أنها صاعدة من فيلم إلى آخر. فبالرغم من روعة الحكايات المنفردة التي تضمنتها أحداث "ليه يا بنفسج"، إلا أن سيناريو الفيلم يعاني هشاشة درامية واضحة، بعكس ما بدت عليه الدراما المتماسكة في "عرق البلح". أما "الساحر" فكانت شاعريته أكثر بلاغة مما قبله لأنها بدت أقل صخبًا.


وكما يولي صاحب "الحياة اليومية لبائع متجول"، اهتمامًا واضحًا بإبراز العلاقات الإنسانية المتفردة داخل نصوصه، فإنه يبدي اهتمامًا مماثلًا بخصوصية البيئة والأماكن التي يصور فيها هذا الجانب من الحياة، مثل اختياره حيّ السيدة زينب العتيق في "ليه يا بنفسج"، أو مصر القديمة في "الساحر"، أو بحثه الذي امتد لسنوات للعثور على قرية مناسبة لم تنل منها عجلة الحداثة، إلى أن هداه بحثه إلى قرية في محافظة الوادي الجديد في صعيد مصر لتصوير أحداث "عرق البلح". والملفت في اختيار تلك الأماكن أنها تشبهه تمامًا، مثل قصص أعماله. فهو عاش بين حي السيدة والمنيل، فيما ترجع أصوله إلى محافظة سوهاج في صعيد مصر.

كذلك يبدي الكاشف في أعماله انحيازًا واضحًا للأدب، يتضح في اهتمامه باختيار سيناريوهات أفلامه، أو كتابة بعضها، وأيضًا في تصدير أشرطته، إما بإهداء لأدباء أو بنصّ يحمل بلاغة شعرية، حيث جاء إهداء "ليه يا بنفسج" إلى "كتّاب الستينات والفرح بالكتابة"، و"عرق البلح" إلى "الجنوبي المطارد بخبيئته.. سلام إليك يوم تموت.. ويوم تبعث حيًا". وخاتمة الفيلم نفسه: "حكاية قرية رحل عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات وانكشف رعب الشمس". أما "الساحر"، فأهداه إلى "سعاد حسني وصلاح جاهين.. وبهجة البسطاء". ويبدو ذلك الانحياز أيضًا في اهتمامه الملفت بتحري السلامة اللغوية والإملائية لتترات تلك الأفلام، وهو أمر نادر تكاد تخلو منه السينما المصرية.

كان رضوان الكاشف مخرجًا استثنائيًا، بالرغم من العدد القليل لأعماله الفنية، وهو الأمر الذي يبعث على الحزن، إذ لا تتوافر أعماله التسجيلية الثلاثة ولا فيلمه الروائي القصير، سواء في الإنترنت أو أسطوانات الفيديو، ما يحرم المتابع من مشاهدتها، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تحرك حقيقي لحماية تراث ذلك المخرج الكبير من الضياع. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها