الخميس 2017/06/29

آخر تحديث: 14:02 (بيروت)

بوركيني خالتي فرنسا؟

الخميس 2017/06/29
بوركيني خالتي فرنسا؟
على شاطئ مدينة صور جنوبي لبنان (غيتي)
increase حجم الخط decrease
رغم الوجه الحقوقي لقصة "بوركيني طرابلس"، فإن النقاش الذي أثارته لبنانياً يبدو أقرب إلى المزحة منه إلى صدى لقضية حريات في بلد حيث ترتاد المحجباتُ العديد من الشواطئ المفتوحة بأمان وعادية، في صُور وبيروت ومدن أخرى. وهذا ليس للانتقاص من احتجاج السيدة المعنية بأن تكون مع زوجها وابنها في منتجع خاص يمكنها تحمّل كلفته، بدلاً من شاطئ عمومي أو مسبح مخصص للنساء. ولا لتقويض الحماسة اللبنانية التي أظهرتها مواقع التواصل لصالح الفرد وحقه في الوجود بالشكل الذي يريده (في مقابل حماسة من الوزن نفسه للتقليل من شأن ما جرى بل ونفيه كمسألة مواطَنَة). إلا أن المفارقة الثقيلة تكمن في استعادة الجدل الذي أثاره البوركيني في فرنسا وعدد من دول الغرب. في حين أن استعارة الإشكالية الفرنسية مستحيلة هنا، ولو حتى بالنبرة المطلبية المدنية، والتي قد تُشابِه الدراما التلفزيونية اللبنانية حين تقتبس قصصها من أفلام هوليوودية بأريحية نافرة.


هذه المرة، الاستيراد اللبناني من فرنسا - الأم الحنون لبعض اللبنانيين والخالة القسرية للبعض الآخر - ليس ثقافياً ولا دستورياً، وهذه من المستوردات الحميدة. هذه المرة، هو استيراد أزمة، وهذا ترف لا ينقص السياقات اللبنانية والمشرقية راهناً.

وما يشكل في فرنسا أزمة هوية دينية، هو، لبنانياً، في صلب "السيستم". في فرنسا، هي أزمة، بصرف النظر عن استنكار أو تأييد طريقة التعامل معها، رسمياً ومجتمعياً وثقافياً، لأن النظام الفرنسي علماني، وإن شابت تعبيره عن علمانيته أحياناً إخفاقاتٌ أو نكسات ملتبسة. فوعيُه بـ"ذاته" علماني، وخطابه المؤسِّس كذلك، من قبل ومن بعد الرُّهاب الكوني من الإسلام والمسلمين.

أما في بلادنا، فالحجاب والنقاب، بأنواعهما، ومجالس العزاء، ومناسبات الحج ورمضان، والمواكب السيّارة الصاخبة في عيد السيدة العذراء وليلة ميلاد المسيح وعيد الفصح، وغيرها من المظاهر والطقوس.. هي الطبيعي المأزوم. إذ أن المشكلة ليست في وجود هذا "الطبيعي" المُتوافق عليه ضمناً مع انزياحات بسيطة هنا وهناك. ولا المشكلة في تكاثر السلوكيات الميثاقية في الحيز العام (على غرار الحكومات الميثاقية). بل هي في صراع "الطبيعي" هذا، مع أشباهه، أي مع انعاكاسات صوره في المرايا اللبنانية العديدة. علماً أن الصراع ههنا ليس على الهوية أو هيئاتها، ولا على الفضاء العام (الجامعة، الشارع، الشاطئ، الخ) بما هو مساحة يفترض بها "الحياد" لتكون مِلكاً للجميع، بدلاً من محاولات تكريسها كمساحة تعجّ بأكبر قدر ممكن من الرموز كدلالة على استيعاب الجميع. الصراع - سِّرهُ الذائع - هو على "الحقوق"، بمعنى مَن يستحوذ على قطعة أكبر من الدولة، مِن الخطاب السائد والمظلومية مانحة الحق في الوقاحة، مِن النفوذ والسلاح والموارد والاستثمارات والثروات الطبيعية والخوّات والخدمات، وطبعاً مِن البرلمان والحكومة لتأمين المكتسبات أعلاه.

هنا الفرق مع المسألة الفرنسية، وهو هائل لدرجة أنه يجعل مقارنة الجدلية الفرنسية، أو الغربية عموماً، بالجدلية اللبنانية خلال اليومين الماضيين، كالجَمع المقارن بين الخس والتفاح.

وأقصى حدود المدنية المُستشَفّة من بعض نقاشات "بوركيني طرابلس"، يتمثل في استعادة ملف الأملاك البحرية ومخالفاتها، وتعديات القطاع الخاص على الشواطئ اللبنانية. الأمر الذي دفع نقيب المؤسسات السياحية البحرية، جان بيروتي، إلى الدعوة "لعدم إطلاق النار على قطاع سياحي برمته يؤمن آلاف فرص العمل ومساحاتٍ خاصة تحمي الرواد على مستوى السلامة العامة والسعي لتأمين نظافة المياه، خصوصاً أن بحرنا ملوث ويعمد مسؤولونا إلى ردمه بالنفايات".

هنا، تبدو المسألة لبنانية حقيقية وصادقة. خطاب منتهكي الأملاك العامة كمنقذين من الدولة الفاشلة والفاسدة. إضافة إلى التذكير بحملات منع الكحول وإعلاناتها في عاصمة الشمال اللبناني، وإغلاق الحانات، واختفاء لحم الخنزير من المطاعم، وبقاء نُصُب "طرابلس قلعة المسلمين"، وانتشار شعارات "احترام الصائم"... وهو تذكير صائب ومُعبِّر وأصيل. ولا ننسى إقحام الحادثة في معترك التنافس الانتخابي السنّي-السنّي في طرابلس.

ومهما كان الرأي النقدي في المسائل العالمية المتعلقة بالدين والحجاب والإسلام الهوياتي، فإن سرديتها الأساس تبقى متمحورة حول تيمة الاندماج بمساعدة قِيَم أرسيت بعد تضحيات جِسام. فيما تتربّع المسألة اللبنانية، والمشرقية عموماً، على فوهة مجتمع يغلي بتناقضاته، وبإرادات القوة المتصارعة بين سطور قِيَمه، كالملاحظات في مسودّة نَصٍّ معقّد لا يُنجز أبداً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها