الإثنين 2017/06/26

آخر تحديث: 11:11 (بيروت)

ما "بال" فيروز؟

الإثنين 2017/06/26
ما "بال" فيروز؟
إن الرموز، وعندما تحقق تمامها، تختار الصمت، وليس غناء العدم
increase حجم الخط decrease
لا يعرف الجمهور عن ألبوم فيروز المقبل سوى عنوانه "ببالي"، ومن "بالها" هذا، لم يستمع حتى الآن سوى إلى أغنية واحدة، أي "لمين؟". بالتالي، قد يكون السؤال هنا: ما "بال" هذه الفنانة، ما "بال" هذا الرمز؟

بدايةً، لا بد من تحديد معنى "البال" بالإنطلاق من عبارة "خطر ببالي"، بحيث أنه مكان الخطور، وموضوعه الحادث، كذكرى أو كفكرة، فجأةً. لكن، هذا الحادث، ولما يخطر في "البال"، يكرث صاحبه، أي يشتد عليه ويثقله. وهكذا، "خطر أمر ببالي" تفيد بـ"إنه يكرثني"، وما على صاحب ذلك البال سوى أن يحول كرثه بالأمر إلى اكتراث به، سوى أن يتمكن منه.

باختصار شديد، "خطر أمر ببالي" يعني "إنه يشتد عليّ، إنه يثقلني، إنه كارثتي"، ولكن، التمكن منه يودي إلى الإكتراث به. على هذا النحو، "البال" هو، في الأساس، مكان وقوع الكارثة، التي، وكلما كان مجهزاً ومتيناً، كلما تمكن منها، وبدّل صاحبه من مكرث إلى مكترث. فـ"البال" هو الذي يعين حامله على تحمل ما يكرثه، الأمر-الكارثة، وعلى الحيلولة دون الإنهيار في إثره.

خطر عاصي الرحباني في "بال" فيروز ككارثة، فقررت التمكن منها، أي الإكتراث به، من خلال مغناها. لكنها، وبحسبما تشير أغنية "لمين؟"، لم تقدم على ذلك من عندياتها، بل من عنديات غيرها. فقد آل "البال" بها، وبمعية ابنتها، ريما، إلى الإرتكاز على أغنية جيبلر بيكو، ولبننتها. إذ يكفي، وبـ"ببالها"، أن تلبنن أغنية لكي تصير أغنيتها، حتى ولو كانت هذه الأغنية بخيلة القول، لا سيما أن محورها يقوم بالإستفهام حول جريان البديهي من الواقعات (سهر النجمة، انصرام العتمة، بكاء الحور، دوران الأرض)، والسعي إلى الإجابة عليه بعد ربط تلك الواقعات بحالة حبية تظهر ميتة، أو غير حية على الأقل.

بما أن الأغنية هي بمثابة حديث مع الرحباني، وهذا من أفعال التمكن من كارثة خطوره في "البال"، من أفعال الإكتراث به، فتبدو فيروز فيها، وعلى أساس نبرتها، بلا حيل اتجاهها أو اتجاهه. فصوتها يصيغه ضرباً من ضروب الميوعة الممنوعة من الصرف بمجملها في تلفظ الكلمات، التي لا يزيد مطّها، كما في نطق "ليه؟"، من نشدها، من مقصدها، بل تبقى رخوة وخائرة، ما يعرضها للزوال مباشرةً من دون أن تبني فحواها.

على أن الموسيقى، التي ترفع هذه الكلمات، وبسبب إيقاعها الخافت، تنطبع بها، لتكون فاترة، تقترب بوضعها من وضع ألحان الإستسلام لأمر بعد طول مكابرة عليه، ألحان "ليس في اليد حيلة"، بعد طول "أنا كليّ القوة". وربما، في هذه الجهة، تصح الإشارة إلى أن الكلمة-المفتاح في "لمين؟" هي "مش لشي"، إذ إن محاولة التمكن من خطور الرحباني في "البال"، من كارثته، أي محاولة الإكتراث به، تبوء بالفشل، وتفضي بمناداته إلى الـ"لا شيء".

لم يتمكن "بال" فيروز من خطور الرحباني به، من الكارثة، بل إن هذا الخطور، وهذه الكارثة، كشفا عن كونه، وبحسبما تبدي "لمين؟" دائماً، يودي بحاملته إلى جعل "اللاشيء" خلاصة حديثها، خصوصاً أن آلياته هي اللبننة، والميوعة الممنوعة، وموسيقى الإستسلام بعد طول مكابرة. فما يخطر في هذا "البال"، سرعان ما يعريه، ويبينه بلا حيلة، تمكن مغنيته من الإنتقال إلى تحمل الكارثة، إلى الإكتراث. "بال" فيروز لا يتمكن من الخاطر به، ولهذا، تتسم أغنيتها بكونها مكرثة بالرحباني، أي أنه يشتد عليها، ويحطمها، حتى إنها، وبعد حديثها الميت، أو غير الحي معه - وهو بذلك نوع من اللغو- لا تخلص سوى إلى تكريس الـ"لاشيء"، إلى تكريس العدم.

ما بال فيروز، ما بال الرمز إذاً؟ إنه البال الذي، وحين يخطر به أمر، كعاصي الرحباني، لا يتحمله، بل إنه ينهار في إثره، فهو بال مكرث، وليس مكترثاً، وبال مكرس لـ"لا شيء"، وليس مشيداً لمعنى. ولما يكون بال الرمز على هذا الوضع، فهو لا يكون سوى رمزاً عدمياً، يوسم المأخوذين به بما عنده: اللاحيلة، الإستسلامية، اللغو، والإفضاء، بعد كل ذلك، إلى العدم. فمن المعلوم أن الرمز، وأي رمز سليم، يعين على تمتين الرغبة في شيء ما. لكن، في حالة فيروز، هو، ولأنه لا يتحمل الخاطر بباله، ولأنه يتحطم تحت وقوع رمز ثانٍ في باله، يعين، في مطافه الأخير، على الرغبة في اللاشيء.

فيروز، وعلى مغناها في "لمين؟"، هي رمز منهار، رمز أنجز مساره، الذي كشف عن تكريسه الصريح للاشي. وهذا ليس منفصلاً البتة عن كونه، وبعد طول سكوت وطول اختفاء، يطل، وبفعل الخاطر بباله، بفعل كارثته، بفيديو تسجيلي، ويجري الترويج له عبر تطبيق "أنغامي". ففيروز، هذا الرمز الدولتي، وفي لحظة إبانته لباله المكسر، قرر التحول إلى صورة إعلامية، لكنه، على الأغلب لن ينجح، بل سيفقد من رمزيته أكثر فأكثر. ذلك، أن الرموز، وعندما تحقق تمامها، وتبدي صميمها، وحتى لو كان اللاشيء مثلاً، تختار الصمت، وليس غناء العدم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها