الإثنين 2017/06/26

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

المنارة الحدباء تستحق الرثاء.. وانقسام المثقفين!

الإثنين 2017/06/26
المنارة الحدباء تستحق الرثاء.. وانقسام المثقفين!
في كل حدث يعلو صوت ثلة من "المثقفين" بشعار أن لا يمس أحد دماء الشهداء
increase حجم الخط decrease
الموصل، مدينة حالها حال المدن التاريخية العتيقة التي تعتمد في تعريفها على تاريخ لقديم وحاضر في المكان نفسه. اعتدنا أن تكون آثار المملكات والامبراطوريات القديمة خارج المدن المعاصرة، لكن في وضع الموصل فإن آثار المملكة الآشورية وما تلاها من عصور تتخلل المدينة المعاصرة مثل شريان نابض لا يمكن العبث معه. ولأن الثقافة العربية تتسم بفن إلحاق الأسماء بالصفات، فإن الموصل- نينوى صار اسمها مرادفاً لاسم الحدباء. ورغم أن الصفة ذاتها تشير إلى "عيب خلقي" في الغالب، إلا أن المدينة كانت تفخر بهذا الاسم، الذي أطلق عليها تيمناً بمَعْلمٍ من معالمها، وهو المنارة الحدباء لجامع النوري في المدينة القديمة. كانت المنارة وما زالت، قبل نسفها، رمزاً للصمود طوال قرون رغم ميلانها وهشاشة بنائها في بعض الزوايا. 

لم يعد مهماً حالياً معرفة تاريخ المنارة وما يحاك حولها من قصص وخرافات، يعتقد بها بعض المؤمنين "بإعجاز" كونها مائلة، ولم يعد مهماً حقاً إعادة بنائها من جديد، فهي ببساطة لن تعود، بل ستكون منارة جديدة في عهد جديد لا علاقة له بتاريخها وولادتها. عندما نسف داعش جانباً من مرقد "النبي يونس" في الجانب الأيسر، يبدو أنه كان من أجل غاية في نفس خبراء ومتخصصين بعلم الآثار. لولا التفجير لما توصل "داعش" إلى اكتشاف الممر السري المدفون تحت تلة المرقد منذ المملكة الآشورية! من يتابع ويتتبع تطورات أعمال "داعش" وما فعله في الموصل وأطرافها وبعض المدن السورية، سيكتشف أنه كان هناك محو وإزالة منظمة لكل آثار الآشوريين. مرقد النبي يونس، كما مذكور في بعض المصادر، لم يكن مسجداً، بل كنيسة ومن قبلها كانت الكنيسة معبداً. وهكذا ينطبق على معظم دور العبادة القديمة التي "تطور" حالها بحسب "تطور" المدن تبعاً لسيطرة الأغلبية من دين ما. ما كان يجمع الموصليين حقاً، باختلاف أديانهم ومذاهبهم، هو إحساس الانتماء إلى دور العبادة القديمة. فلم يكن المسيحي يجد غضاضة في زيارة مرقد النبي يونس والنبي جرجيس وغيرهما، حتى لو كانوا يعتبرونها جوامع المسلمين. ولم يكن المسلم يجد حرجاً في صعود الجبال مشياً للوصول إلى كنيسة مار متى والتبرك بمياه المغارة المجاورة له. يؤمن كثير من الموصليين بمعتقدات تكاد تكون متقاربة بشأن المزارات ودور العبادة. لهذا، لم يكن غريباً أن تزور امرأة مسيحية تتمنى أن تحمل وتنجب، أحد هذه المراقد لطلب الأمنية من صاحب الضريح. وكذلك لم يكن غريباً قط زيارة العروس المسلمة، الكنائس القديمة، وطلب المباركة من السيدة العذراء في صبي تتمناه مثل المسيح! نعم، هذا ما كان يحدث لوقت قريب، وما زال كثيرون يؤمنون بهذه المعتقدات التي تعود جذورها إلى ما قبل الأديان السماوية في هذه البقعة. وأظن مثل هذه المعتقدات موجودة أيضاً في بلدان ضاربة في القِدم.

لم يكن جيلي يعلم الكثير عن جامع النوري ومنارته، غير ما يروى عنه شفاهياً. تتباين الوثائق المكتوبة حوله، في سرد قصصه، إلا واحدة. وهي قصة ترميم المنارة من قبل المعماري الموصلي المسيحي الشهير بعبودي الطنبورجي (1884-1971) في اربعينات القرن الماضي. كان يعتبر من أمهر البنائين والمعماريين في المدينة. ساهم في بناء وترميم منائر وقبب الجوامع والكنائس من دون أن يتقاضى أجراً على ذلك. وصلت شهرته إلى بغداد وأصبح اسمه يردد مع أشهر المعماريين. كان الملك فيصل الأول يعرفه ويكن له الاحترام والتقدير، بحسب المؤرخين الموصليين. ساهم في ما بعد ببناء محطة القطار العالمية في بغداد، الذي بدأ العمل فيها العام 1948. رغم انجازات الطنبورجي العديدة إلا أن اسمه اقترن بمنارة جامع النوري في ذهنية الشخصية الموصلية. وقد أعاد سقوط نينوى في يد داعش العام 2014، اسمه إلى الأذهان، خاصة بعدما اختار زعيم داعش أبو بكر البغدادي أن يكون خطابه وانطلاق "خلافته" من هذا الجامع. كانت صدمة عامة لكثير من السكان، خاصة الأحياء المجاورة للجامع. إذ لم يكن لديهم عِلم بقدوم البغدادي، ويروي شهود عيان كيف أن عناصر داعش انتشرت بشكل سريع، مدججة بالأسلحة المتطورة في الجامع. منعوا المصلين الذين اعتادوا إقامة الصلاة فيه، من الخروج. ورغم أن الكثير من الموصليين كانوا على عِلم بقصة البنّاء المسيحي، إلا إن إعادة التذكير فيه بعد الخطاب وبعد تفجير مرقد النبي يونس، كان لزاماً للتنويه بمن رمم وحفظ إرث المسلمين، ومن دمّره!

عاد اسم الطنبورجي إلى الانتشار من جديد بعد تفجير المنارة الحدباء، عندما أعاد الصحافي والروائي العراقي الموصلي نوزت شمدين، نشر مقال متخيل سابق له، عن الطنبورجي وسرد حكايتهِ كبنّاء ومرمم لتصدعات المنائر، وماذا كان سيفعل لو ما زال في عصرنا هذا! لقد توصل شمدين إلى حلقة الوصل بين الماضي والحاضر بالتوصل إلى حفيد الطنبورجي الذي يقيم في المنفى منذ سنوات، كحال الآلاف من مسيحيي المدينة الذين غادروها على مضض، وأخبر الحفيد بدورهِ أن بحوزتهِ تدوينات جدّه عن ترميم المنارة.

متوالية الخراب التي عاشها ويعيشها أبناء الموصل من محو لتاريخهم وهويتهم، وحتى لهجتهم العريقة المتميزة عن باقي اللهجات العراقية والتي بدأت تندثر بسبب شتات أبنائها الأصليين، يضعنا أمام تساؤل مشروع لا بدّ منهُ حتى قبل انتهاء المعارك: ما مصير الموصل بعد داعش؟!

ومنذ سيطرة داعش على مدينة الموصل وإعلان زعيمه أبو بكر البغدادي "الخلافة" المزعومة من منبر جامع النوري الكبير صيف 2014، انقسم مثقفون ومبدعون وممن يحسبون أنفسهم على الوسط الإعلامي، بين داعم لضرورة تحرير المدينة والتحرك سريعاً لفتح تحقيقات جادة في سقوطها بهذه الطريقة، وبين شامت وداعٍ إلى إبادة سكان الموصل واتهامهم بأنهم جميعاً "دواعش". انتشر خطاب الكراهية والتحريض على أهل الموصل بشكل منظم منذ ثلاث سنوات، وهو مستمر حتى يومنا هذا. من تابع المشهد العراقي منذ السنوات الأولى للاحتلال الأميركي، لن يستغرب أن يعلو خطاب الكراهية والتحريض على خطاب العقل والحكمة. منذ زمن والحكومة في بغداد تتعامل مع بقية المدن على أنها منفصلة عن المركز، وتتخذ معظم قراراتها بعيداً من المصلحة العامة. انقطعت صلة بغداد/المركز المعنوية بمحافظات الجنوب والوسط والشمال منذ زمن، وتقتصر العلاقة على الأمور المالية وبعض الإداريات. حتى يشعر الفرد الذي يعيش بعيداً من بغداد إنهُ لم يعد مواطناً في دولة عراقية عاصمتها بغداد. 

وجاء أخيراً حادث نسف منارة جامع النوري الكبير في المدينة العتيقة، سبباً آخر يدعونا لتأمل العلاقة بين الجنوب والشمال وبين المركز والأقاليم، وبين ثقافتين مختلفتين يفصل بينهما بُعد جغرافي ومناخي وتفاصيل تاريخية متجذرة. الضبابية تسود الأخبار المتواردة من الموصل بسبب قلة المصادر الإعلامية المحترفة والموثوق فيها. كذلك تباين تصريحات المسؤولين العسكريين أنفسهم وتباين مشاهدات فرق الإعلام المرافقة للقوات العراقية المشتركة. منذ بدء المعارك في عملية تحرير نينوى من سيطرة داعش، حصلت أخطاء عسكرية جسيمة لم تقدر الجهات التملص منها أو نكرانها، لكنها لم تثبتها أيضاً أو تعتذر عنها. كان أكبر هذه الأخطاء هو قصف حي الموصل الجديد، والذي راح ضحيته مئات المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن. هؤلاء لم يستطيعوا الهرب من مناطق المعارك لأسباب كثيرة، منها استحالة الخروج الآمن من بين النيران المتقابلة وقناصة داعش المنتشرين على أسطح المنازل. توالت التجاوزات هنا وهناك، من قتل على الشبهة بلا محاكمة أو تأكد، وإهمال بلاغات كثيرة لمدنيين عن وجود دواعش بينهم. حصلت حوادث سلب ونهب لم يتبناها أحد، وتبادلت المجموعات في القوات المشتركة، الاتهامات، مثلما حصل بين قوات بغداد والبيشمركة. وقعت أخطاء عسكرية أخرى مثل زج أعداد كبيرة من الجنود والمتطوعين في في معارك غير مدروسة، فخرجوا منها بخسارات كبيرة كان في مقدورهم تجنبها. وهذا ما نوه به الصحافي الميداني، الشاعر صفاء خلف، الذي رافق مؤخراً القوات العراقية في معارك الموصل لتغطية الأحداث.

منذ تواجد خلف ومشاهداتهِ لهذه المعارك، أصبح لديه تصور واقعي ملموس عن أن هناك أخطاء كثيرة تحدث لا يتم التعامل معها بجدية، لتفاديها مستقبلاً. وطالب بإجراء تحقيق عاجل وفوري في حادث نسف المنارة الحدباء وعدم اقتناعه ببيان القوات العسكرية، معتمداً على معلومات استقصائية اشتغل عليها. هذا أثار حفيظة مجموعة اعلاميين في صحف الحكومة الرسمية، وبدأوا حملة تشهير وتحريض ضده واتهماهِ بالطائفية والتطرف.

الملفت للنظر في قضية صفاء خلف أن مجموعة كبيرة من "المبدعين والمثقفين" المعروفين، تجنبوا الخوض في استنكار هذه الهجمة والتحريض المباشر. لم يكن خلف هو الوحيد الذي تعرض لهذه الهجمة، بل كل من تعاطف مع "حجارة" المنارة والتي لا تقارن بـ"دماء شهداء" سالت من أجل تحرير المدينة. تعاطف وتضامن الكثيرين مع تاريخ ورمز هذه المدينة، أثار حقيقةَ أننا بدأنا نفقد صلتنا بجذورنا، وثمة منارة حدباء في كل مدينة عراقية سيكون مصيرها مصير منارة جامع النوري. وإثر ذلك، تطابق رأي الروائي العراقي أحمد سعداوي، الحائز جائزة "بوكر" العام 2014، مع رأي خلف، في شأن الاهمال المتعمد لهذه المنارات التاريخية المنتشرة في العديد من المدن العراقية، ومنها منارة جامع الكواز في البصرة ومنارة جامع النُخيلة التي أشار إليها سعداوي في صفحتهِ في فايسبوك: "منارة النُخيلة المندرس في المدينة القديمة بالكفل /ما بين بابل والنجف/ والبلدة تعد ثروة آثارية مهمة، ولكنها مهملة. منارة النُخيلة المائلة مثل منارة الحدباء، تعود الى الفترة الإيلخانية المغولية 703 هـ، أما المسجد المندرس فيرقى إلى القرن الهجري الأول".

وتوالت الردود على منشورهما بذكر منارات تاريخية أخرى تعاني التصدع والإهمال ومهددة بالانهيار!

في كل حدث تدميري أو مجزرة تطاول المدنيين، يعلو صوت ثلة من "المثقفين" قبل أي تعليق، ألا يمس أحد دماء الشهداء المقدسة. لو تأملنا الوضع في العراق لوجدناه عبارة عن كلمة مقدس/مقدسة. كل شيء مقدس بحسب المجاميع والفئات البشرية، عدا الحياة. كل شيء خط أحمر، عدا مصير بلد ودولة على وشك الانهيار. ولا أعرف ما شكل خريطة العراق من الفضاء وهو مغلف بهذه الخطوط الحمراء كلها. الغالبية لا يتقبلون صوت العقل والشرح الموضوعي والنقد البناء في نشاط الحكومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية. لم يعد أحد يتقبل أي نقد للممارسات الخاطئة والتجاوزات التي تقوم بها مجاميع غير قليلة من القوات المشتركة وعناصر الحشد الشعبي. لم تعد تصرفات فردية تمثل الشخص المعني بها، بل صارت سمة تميز فريق عمل يجتمع على الموافقة على هذه التجاوزات بالسكوت عنها وعدم فتح التحقيقات الجادة بشأن القضايا المتراكمة علي رفوف الإهمال!

إن ما طالب به صفاء خلف من فتح تحقيق بشأن الكارثة هو مطلب مشروع لا يتعارض قط مع دعم القوات العراقية، حتى لو اختلفنا مع أسلوب إدارتها للأزمات. فهي بالتالي قوات مشتركة من جميع أطياف الشعب والخطأ يتحمله الجميع بلا تمييز. إن الغاية من عمليات تحرير الموصل هو إعادة لُحمة الصف العراقي وليس شقّهِ، لأن هذا ما نجح فيه داعش، أو يفترض أن تكون هذه هي الغاية لا غيرها. وطالما هناك خطاب سائد بالتعامل مع ما يحدث في الموصل على مبدأ: "من إيده الله يزيده"، للإشارة بأن أهل الموصل يستحقون ما يحصل لهم لأنهم سمحوا لداعش بالسيطرة على مدينتهم، فلا أجد أي ضرورة لعمليات التحرير من أساسه، ولا أجد "توريط" آلاف الشباب المتطوعين للمشاركة في تحرير مدينة لا يستحق سكانها الحرية! وهذا ما استنكره الروائي العراقي المعروف سنان أنطون في صفحتهِ في فايسبوك، حينما قال تعقيباً على رد فعل الكثير من المثقفين: "كما لو أن الحدباء في قارة أخرى وفي بلد أجنبي وليست في وطنكم الذي اسمه العراق وفي الموصل!"

سارع كثير من "المبدعين" إلى استنكار الحادثة بتذكير الجميع أن "دم الشهداء" أولى بحزننا منه على مجرد حجارة! وهذا ما رد عليه سعداوي في معرض تعقيبه آنف الذكر: "إن لم نأسف لتدمير آثارنا الشاخصة والتي هي جزء من هويتنا الحضارية، فما فرقنا عن فاقدي الذاكرة".

لا أعرف حقيقة ما علاقة التضامن مع جريمة محو تاريخ وهدم حضارة شعب وبين تقديس دم الشهداء! ألا يستطيع المرء أن يكون مع الاثنين في آن واحد؟ وكيف سيساهم تقديسنا لدم الشهداء من الحد من جرائم داعش وأخطاء العسكر؟ وصل الأمر ببعض "المثقفين" إلى تسفيه الواقعة لحد بغيض، عندما دعا أحد المحسوبين على الشعراء والكتّاب بتحويل جامع النوري إلى مرافق صحية! وهذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها للكراهية والتحريض، فقد سبق للشخص نفسه أن قاد حملة تشهير وتحريض ضد شاعر وفنان عراقي بتهمة المساس بالذات المذهبية!

من متابعة الوسط الثقافي وما آل إليه الكثيرون، يشعر الواحد بالرعب عندما يتصور الوسط العام كيف هو إذن! يبدو أننا مقبلون على عصر لن نخرج منه بسهولة تحكمنا فيه فاشية ديموقراطية من نوع جديد شعارها: لا مساس بالمقدسات، وما أكثرها في أرض السواد!  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها