السبت 2017/06/24

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

"ربيع" فاتشي بولغورجيان.. فرصة أخرى ضائعة

السبت 2017/06/24
increase حجم الخط decrease
كان من الممكن لفيلم "ربيع" للمخرج اللبناني فاتشي بولغورجيان أن يكون وسيلة مخرجه الشاب لاعتماد أوراقه كسينمائي جاد ينبئ بأعمال مهمة في المستقبل، غير أن لجوءه إلى الحلول التوفيقية جعل باكورته الإخراجية تفقد كثيراً من طزاجتها، لتلتحق بسابقاتها من الأعمال الروائية والتسجيلية والوثائقية التي تناولت موضوعات الهوية والانتماء والذاكرة اللبنانية المفخخة بحرب أهلية تتوالد تأثيراتها في ثنايا الروتين اليومي لكثير ممن لم يعيشوها أساساً. 

في قلب حكاية الفيلم، شاب ضرير (جبور بركات) يحمل الفيلم اسمه، يعيش في الريف اللبناني الوديع مع والدته (جوليا قصّار) وخاله (توفيق بركات)، رفقة طبلته وكمانه، ويتمتع بحياة ربما يحسده عليها كثيرون، غير أن تلك الحياة تنقلب فجأة حين تتلقى جوقة قريته التي يعزف فيها دعوة للمشاركة في جولة فنية في أوروبا. يضطر ربيع لاستخراج جواز سفر فيكتشف أن هويته التي يحملها طوال حياته مزيّفة، وأن الأم التي ربته ليست أمه ووالده الراحل المفترض ليس كذلك في الحقيقة، ليقرر حينها الوصول إلى أصله وفصله، ويبدأ رحلة بحث لن تفارق الريف اللبناني، حيث سيكون على موعد مع أفراد يعيشون على هامش المجتمع البيروتي، المجتمع الذي قدم أساساً من ذلك الريف المهمَل.

لن يحصل ربيع على إجابات شافية، مثلما هو الحال في لبنان حين يتعلق الأمر بميراث الحرب، لكنه يصرّ على استكمال البحث من أجل الوصول إلى قصة مترابطة يستطيع الوثوق فيها حول حقيقة أهله الأصليين والطريقة التي فقدهم بها أثناء الحرب والسرّ وراء احتفاظ "خاله" المحارب القديم به وتسليمه إلى "أمه" لرعايته وتنشئته. أناس من خلفيات دينية ومجتمعية متعددة سيقابلهم ربيع ليعطوه معلومات مغلوطة وحكايات كثيرة ومختلفة وغير مترابطة في جولاته ولقاءاته في أرجاء الريف اللبناني، الذي يقدّم مشهديات جليلة تتناقض مع القسوة المكتسبة للعائشين على أرضه، لكن النهج الإخراجي الذي يعتمده بولغورجيان لإظهار ذلك يذكّرنا كثيراً بالتحقيقات التلفزيونية التي نتابع فيها لقاءات مصوّرة مع أشخاص يلغون افتراضات سابقة لدى المحقق ويضيفون بعداً جديداً للموضوع، وفي الأثناء يكون المشاهدون على موعد مع فاصل ترفيهي يملأ وقت الحلقة. الأمر ليس سيئاً بالمجمل، لكن الإنجاز المتحقق في الفيلم ليس على القدر المتوقع لمشاهده المبكرة التي تؤسس لحكاية مشوّقة واستقصائية ربما تحمل أبعاداً كافكاوية أو غوصاً في الوحل اللبناني، بصورة غير التي ظهرت على طول الشريط السينمائي.


فالحال أن المخرج، وهو نفسه الكاتب والسيناريست، اقتصر على مقاربة الموضوع، الممتدة تعقيداته إلى دهاليز السياسة اللبنانية، على مستوى بدائي للغاية يصل ذروته في المشهد الختامي للفيلم، الذي يحمل أسوأ "فينالة" ممكنة، حين يكون على المشاهدين الاستماع والنظر إلى فيديو كليب يمتد لحوالي 10 دقائق يغني فيه الشاب الباحث عن هويته "ابعتلي جواب" على طريقته الخاصة، ويعيد ويزيد في جملة "مش قادر أقول إنت الجاي"، في محاولة سنتمنتالية لاستدرار العطف لا يحتاجها الفيلم أساسًا. طريقة أخرى اعتمدها بولغورجيان لتثمين البحث الذي يقوم به بطله، من خلال تقديم مقارنة بامتداد فيلمه -وإن بطريقة مغرقة في تجاوزها تجعل هضمها أمرًا صعبًا- تقوم بالأساس على المقابلة بين ضدين، الشاب الذي يعاني إعاقة جسدية، لكنه يملك بصيرة تمكنه من الوصول لحقيقته، وبين المجتمع الذي يدفن رأسه هربًا من رؤية حقيقته ويستبدلها بتلفيقات أخرى مرضية، كدليل على تشوهه النفسي والروحي.

اللجوء لمثل هذه الاختيارات المجانية تحديدًا هو مشكلة الفيلم الرئيسية، بتأشيره على تعطيل متعمَّد للخيال الروائي يمارسه السينمائي على عمله فيفقده الكثير من قيمته المفترضة. التصوير السينمائي البديع، لجايمس لي فيلان، لن يستطيع الصمود وحده أمام تلك الهشاشة الواضحة في السيناريو، كما أن إصرار المخرج على إسناد الدور إلى شاب كفيف فعليًا لم يأت بالنتيجة المرجوة، حيث يشمل الفيلم أداءات آسرة من من جميع الممثلين، ما عدا ربيع نفسه. هنا فرصة ضائعة لتقديم فيلم جيد ومتماسك، لم يستطع صنّاعه إكمال وعدهم في نبش المسكوت عنه بخصوص الحرب، كما لم يقدروا على تقديم ولو حتى صورة لجيل لبناني تائه في وطن ضائع بين متاهات سياسيه.

(*) يعرض حالياً في سينما صوفيل في بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها