الجمعة 2017/06/23

آخر تحديث: 12:57 (بيروت)

جامع النوري ومنارته الحدباء

الجمعة 2017/06/23
increase حجم الخط decrease
تحدّثت وسائل الإعلام العالمية عن قيام تنظيم "داعش" بتفجير مسجد النوري الكبير في الموصل مساء الإربعاء، وهو المسجد الذي أعلن منه هذا التنظيم ما سمّاه "دولة الخلافة" قبل نحو ثلاث سنوات. ويبدو أن هذا التفجير شمل "منارة الحدباء" التي تُعتبر أعلى منارة في العراق، ورمزا للمدينة. من جهتها، أعلنت وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم داعش أن غارة أميركية دمرت المسجد والمنارة في الموصل، وجاء هذا الإعلان ليؤكّد خراب المسجد والمنارة. 


في حزيران/يونيو 1184، مرّ ابن جبير بالموصل، وكتب في وصفها: "هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة، قد طالت صحبتها للزمن، فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن، قد كادت أبراجها تلتقي انتظاماً لقرب مسافة بعضها من بعض، وباطن الداخل منها بيوت، بعضها على بعض، وللمقاتلة في هذه البيوت حرز وقاية، وهي من المرافق الحربية. وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصاً، ينتظمها سور عتيق البنية مشيد البروج، وتتصل بها دور السلطان. وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متسع يمتد من أعلى البلد أسفله. ودجلة شرقي البلد، وهي متصلة بالسور، وأبراجه في مائها. وللبلدة ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق، وأحدث فيه بعض أمراء البلدة، وكان يعرف بمجاهد الدين، جامعاً على شط دجلة، ما أرى وضع جامع أحفل منه، بناء يقصر الوصف عنه وعن تزيينه وترتيبه، وكل ذلك نقش في الآجر".

يشير الرحالة الأنسي في حديثه إلى جامعين، "أحدهما جديد، والآخر من عهد بني أمية"، ثم يصف الجامع الجديد، ويقول أن في صحنه قبة، "داخلها سارية رخام قائمة، قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها، وفي أعلاها خصة رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه قضيب من البلور معتدل ثم ينعكس أسفل القبة". بعد ابن جبير، تحدّث ياقوت الحموي مطوّلا عن الموصل في "معجم البلدان"، وذكر أبنيتها، وقال إنها "حسنة جيدة وثيقة بهية المنظر لأنها تبنى بالنورة والرخام"، ثم ذكر سورها الذي "يشتمل على جامعين تقام فيهما الجمعة، أحدهما بناه نور الدين محمود وهو في وسط السوق وهو طريق للذاهب والجائي مليح كبير، والآخر على نشز من الأرض في صقع من أصقاعها، قديم، وهو الذي استحدثه مروان بن محمد".

بحسب هذه الشهادة، بنى المسجد "القديم" مروان الثاني بن محمد بن مروان، آخر خلفاء بني أمية في دمشق، وبنى المسجد "الجديد" الملك العادل أبو القاسم نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وذلك بعد سيطرته على الموصل في ستة 1170. في "وفيات الأعيان"، يؤكد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان قيام نور الدين ببناء "الجامع النوري داخل الموصل"، ويضيف: "وهو مشهور هناك يُقام فيه الجمعة، وكان سبب عمارته ما حكاه العماد الأصبهاني في البرق الشامي عند ذكره لوصول نور الدين إلى الموصل أنه كان بالموصل خربة متوسطة البلد واسعة، وقد أشاعوا عنها ما ينفر القلوب منها، وقالوا: ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره، ولم يتم على مراده أمره، فأشار عليه الشيخ الزاهد معين الدين عمر الملا، وكان من كبار الصالحين، بابتياع الخربة وبنائها جامعاً؛ وأنفق فيها أموالاً جزيلة، ووقف على الجامع ضيعة من ضياع الموصل".

في "الروضتين في تاريخ الدولتين الصلاحية والنورية"، ينقل أبو شامة المقدسي عن ابن الأثير قصة بناء هذا المسجد. بحسب شهادة مؤرخ الزنكيين ونصيرهم الأكبر، شيّد نور الدين "القلاع والحصون، وحصنها وأحكم بناءها، وأخرج عليها من الأموال ما لا تسمح به النفوس وبنى أيضا المدارس بحلب، وحماة، ودمشق، وغيرها للشافعية والحنفية. وبنى الجوامع في جميع البلاد، فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان. ومن أحسن ما عمل فيه أنه فوض أمر عمارته والخرج عليه إلى الشيخ عمر الملا رحمه الله، وهو رجل من الصالحين، فقيل له إن هذا لا ويصلح لمثل هذا العمل. فقال: إذا ولّيت العمل بعض أصحابي من الأجناد والكتاب أعلم أنه يظلم في بعض الأوقات، ولا يفي الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظني أنه لا يظلم، فإذا ظلم كان الإثم عليه لا عليّ".

آلت "النهاية في الحسن والابداع" إلى الجامع النوري، غير أنه عانى من ويلات الحروب المتلاحقة التي شهدتها الموصل، وتهاوى مع الزمن. في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، مر الرحالة البريطاني جيمس سلك بكنغهام في هذه النواحي، وقصد الجامع النوري، ووجده مهجورا ومهملا. بعدها، سعى محمد بن الملا جرجيس القادري النوري إلى ترميم الجامع، واتخذ تكية له فيه، كنه رحل عن هذه الدنيا قبل أن يحقق مسعاه. في أوائل القرن التاسع عشر،  قام المستشرق الألماني ارنست هرتسفلد بدراسة الموقع، وخرج بتقرير علمي خالف فيه الرواية التي نقلها الرواة في الماضي، وشكّل هذا التقرير بداية لدراسات متلاحقة تباينت فيها الآراء في تحديد أصل البناء وتاريخ تطوّره. أثارت هذه الدراسات انتباه الدولة، وسلّطت الضوء على الموقع المهمل. في مذكراته، يروي متصرّف الموصل تحسين علي أنه حين تسلم مهامه في سنة 1939، كان الجامع "مهدما ومهجورا لا يصلح لاقامة الصلاة"، وحين زار مدين الأوقاف العام المدينة، حدثه عن واقع الأمر، وطلب منه تخصيص موزانة لصيانة الجامع، فشُكّلت لجنة لهذا الغرض، لكن هذا المشروع لم يتحقق، والسبب حلول مدير جديد تخلى سريعا عنه وسحب المنحة المخصصة له.  

في الأربعينات، تسلّمت مديرية الأوقاف العامة هذا الملف، وأشرف مصطفى الصابونجي على الترميم، فأعاد بناء المسجد وفقا لهيكلية هندسية جديدة مستخدما الرخام، وشيّد أربع مدائن حديثة. قضى هذا البناء على الموقع الأثري، ولم يبق من البناء الأصلي للجامع سوى المنارة والمحراب وبعض الزخارف الجصية. في المقابل، ساهمت هذه العملية بالكشف عن آثار عديدة نقل معظمها إلى بغداد لحسن الحظ، ومنها جدار القبلة الذي نقل إلى المتحف العراقي. تزين هذا الجدار تشكيلات زخرفية جصية تجمع بين الوحدات الهندسية والعناصر النباتية والكتابات الكوفية، تشهد للمقام الرفيع الذي بلغته جمالية الفن الإسلامي في هذه الحقبة.

بقيت منارة الحدباء الشهيرة في موقعها، وهي مؤلفة من قسم أسطواني وآخر منشوري، وتزينها سبع شرائط زخرفية أجرية نافرة. رمّمها في مطلع القرن العشرين بنّاء مسيحي يُدعى عبودي الطنبورجي بعد أن عهد إليه متصرّف الموصل بهذه المهمة، وحين عُرض عليه الاجر مقابل عمله، رفض وقال: أنا آخذ أجوري من صاحب البيت، والبيت هنا هو الجامع النوري، أي "بيت الله" الذي تهاوى اليوم، وتهاوت معه منارته التي صمدت طوال تسعة قرون من الزمن، وبسقوطها فقدت الموصل رمزها التاريخي الأشهر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها