الجمعة 2017/06/23

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

أحمد خالد توفيق الذي يكره "أولاد حارتنا"

الجمعة 2017/06/23
أحمد خالد توفيق الذي يكره "أولاد حارتنا"
يشير توفيق إلى أن هناك حالة عامة مؤكدة من الانفلات بدعوى الإبداع
increase حجم الخط decrease
في كتابه الأحدث "اللغز وراء السطور" وفي عنوان جانبي "أحاديث من مطبخ الكتابة"، يبدو الكاتب المصري أحمد خالد توفيق، كمن سيكشف أوراق تكنيكاته الفنية وحيله الأدبية، التي جعلته يتبوأ مكانة مرموقة في أرفف "البيست سيللر"، لكنه بجانب ذلك، كشف عن جملة من الآراء في العديد من الكتابات الأدبية، أبرزها الأدب المكشوف، ما وصفه بـ"الانفلات بزعم الإبداع". 

في مستهل الكتاب، يقدم خالد توفيق مقالات طريفة عن الفارق بين الجودة الأدبية، والإنتاج الغزير، يحكي عن الكاتب الأميركي فرانك ستوكتون ذائع الصيت، الذي كان يكتب قصصا قصيرة فائقة الإمتاع، ويعيش من دخلها، لكنه ذات مرة أبدع قصة تفوق فيها على نفسه، ووصلت به حدا أنها أبكت زوجته، وحينما أرسلها للنشر، صنعت مجده، انهالت الرسائل التي تمتدحه، وتصف كم هي مؤثرة، ثم اكتشف أنه صنع مجده، ولم يعد باستطاعته نشر قصص أقل منها في المستوى الفني، باتت القصص التي يكتبها بعد قصته ذائعة الصيت "المرحومة أخت زوجته" ترفض، وتعود له مزودة بملحوظة "قارئك لن يقبل بأقل من مستوى "المرحومة أخت زوجته".

يثير أحمد خالد توفيق إشكالية الغزارة، والإبداع الحقيقي، ويصفها بالعقدة التي يعرفها كل فنان، إن عمل واحد قد يحرق كل أعماله التالية، ويضرب مثلا على هذه الإشكالية بشخصية روبرت لانغدون، عالم الرموز الدينية الذي ابتكره دان براون، ويعترف توفيق أن شخصيته "رفعت إسماعيل" التى ابتكرها في سلسلة "ما وراء الطبيعة" كانت ناجحة جدا، لدرجة أن الناس لا تنظر بجدية لأي شخصية أخرى.

وفي ثالث فصول الكتاب يتحدث توفيق عن قضية التقمص، وانتحال الكاتب شخصيات روايته، يشدد توفيق على أن الأديب يجب أن يخفي تحت جمجمته فتاة مهذبة ومقامرا محترفا، وبلطجيا، ورجل شرطة، وفتاة ليل، يشير إلى إعجابه بالشخصيات التي تقمها نجيب محفوظ في ثلاثيته، وكيف صار في لحظة كمال العاشق المرهف المثقف، ثم تحول إلى ياسين الشهواني، ثم فجأة هو سيد عبد الجواد الوقور المهيب، الذي يهوى الخلاعة.

يمر أحمد خالد توفيق على قضايا عديدة، تمثل نقاطا عديدة للنقاش في الوسط الأدبي، ومنها قضية تناول شخصيات حقيقية في أعمال أدبية، وذلك في فصله الذي عنونه "الروايات المفتاح"، ويضرب الأمثلة برواية روبرت هاريس التي يعرف قارئها أن بطلها هو نفسه توني بلير، ورواية سيمون دي بوفوار الضخمة عن المثقفين، التي ترجمت للعربية باسم "المثقفون"، ويناقش توفيق معضلة الرواية المفتاح عند الكتاب العرب، الذين يضطرون لممارسة خليط من الرواية المفتاح، والرمز، فيقول: أصغر طالب في المدرسة الابتدائية يعرف أن فؤادة هي مصر، وأن عتريس هو عبد الناصر.

يقدم توفيق اعترافا شجاعا أنه لم يحب رواية "أولاد حارتنا"، التي كانت أول رواية يكتبها محفوظ بعد ثورة يوليو، ويبرر توفيق عدم حبه لها لأنها واضحة وسهلة جدا من رواية المفتاح، يقول توفيق: لم أشعر فيها بالجذوة الفنية الحارقة، التي تميز أعمال نجيب محفوظ، وأعتقد أنه لم يحب هذه الرواية فعلا، وأراد أن ينساها الناس.

توقفت كثيرا عند السطر الأخير الذي ذكره توفيق، عن ظنه أن محفوظ لم يحب روايته "أولاد حارتنا" وعدت إلى صفحات من حوار محفوظ مع رجاء النقاش، تحدث فيه عن المعاني الإنسانية والاجتماعية التي حوتها روايته أولاد حارتنا، وقلت في نفسي إن أحمد خالد توفيق بحاجة لمراجعة هذه الصفحات، ليتأكد أن ظنه في غير محله، وأن محفوظ استمات في الدفاع عن المعاني التي عكستها روايته "أولاد حارتنا" غير الرموز الفنية الواضحة التي أشار إليها توفيق.

يطرح أحمد خالد توفيق حلولا لما يسمي بـ "writers block" أو ما ترجمه بـ "سدة الكُتاب"، ولكن المميز في هذا الفصل، أنه عرض تاريخ ظاهرة عجز الكاتب عن مواصلة الكتابة، مشيرا إلى أن الطبيب النفسي إدموند بيرغلر، كان أول من وصف الظاهرة عام 1947. يقول أحمد خالد توفيق إن سدة الكُتاب، مرض يمتد لفجر التاريخ، أي لأول مؤلف عرفه العالم - لم يذكره- مشخصا أعراضها وأسبابها، والتي من بينها خوف الكاتب من الكتاب القادم، يستعين توفيق بعبارة طريفة يقول فيها: الكل يخشون أن تطيش الضربة، وفي الوقت ذاته لديهم توق سادي أن يحدث هذا، هذه هي ميزة أن تكتب عملاً رديئا، أن تكون في القاع، لا أحد يتوقع منك معجزة في العمل التالي، ومهما حدث فلسوف تتحرك خطوة نحو السطح، بينما القمة ضيقة جدا، باردة جدا، لا يمكنك أن تتحرك منها إلا لأسفل.

ويأتي الفصل الذي عنونه "القصة القصيرة"، ليشمل نصائح مهمة جعلها توفيق موجهة لكاتب هذا اللون، مستعينا بأفكار الفرنسي موباسان الذي كان شعاره: لنحك قصصا عن أشخاص عاديين في عالم عادي، وكان يرى أن اقتناص اللحظة هو المدخل لكتابة قصة قصيرة. يتحدث توفيق في هذا الفصل عن كتاب رشاد رشدي، فن القصة القصيرة، الذي تم نشره في القاهرة عام 1959، وقدم قصصا قصيرة كاملة استعملها رشدي للدلالة على المعاني التي يرمي إليها، ومنها أن القصة الجيدة لا يمكن تلخيصها، وأن يجب أن يكون لها معنى يحققه الكاتب في النهاية، التي تصل بقارئها إلى نقطة "التنوير".

قدم أحمد خالد توفيق في كتابه موضوعات مثيرة للتفكير، والتأمل ومنها أدب الخيال العلمي، والكتابة البوليسية، وكذلك الأدب السهل، والكتابة الأدبية الملغزة والمعقدة، إلا أن من أبرز فصول كتابه، تلك التي تطرق فيها إلى حيرته ككاتب في مسألة الصراع الدائم بين المحافظين الذين يرغبون أن يكون الأدب نظيفا، خاليا من ألفاظ مكشوفة، ودعاة حرية الإبداع، يشير توفيق إلى أن هناك حالة عامة مؤكدة من الانفلات بدعوى الإبداع، وينتقد ما وصفه بالخلطة المحكمة معروفة المقادير "غضب- تجديف- استهانة بالدين- جنس- يأس- حشيش- محارم"، ويعلن رفضه لهذا النوع من الكتابة، أو الفن المكشوف، ويعلن كذلك شعوره بالذنب لأنه ليس في صف حرية الإبداع المطلقة، ويضرب توفيق الأمثلة في الكتاب بالمخرج المصري محمد خان وأفلامه التي صور فيها الواقعية المصرية، دون خدش حياء، أو ألفاظ مكشوفة.

يؤكد أحمد خالد توفيق أنه ضد سجن أي كاتب بسبب كتابته، لكنه مع ذلك يؤيد الرقابة المثقفة المستنيرة على ما يكتب، ينحاز توفيق إلى رأي المثقف المصري جلال أمين، الذي يقول: "حرية الفرد في الكتابة يجب أن تكون لها حدود مثل حرية الفرد في إطلاق الرصاص على الناس"، يضع توفيق آراء جلال أمين في كفة، في مواجهة آراء الناقد المصري صبري حافظ، الذي ينحاز تماما إلى الرأي الذي يقول: "انتقاد الرواية ليس من حق صحافي لا دراية له بأساليب قراءة الأعمال الأدبية، لأن العمل الفني ينهض على الجدل المستمر بين جزئياته المنتقاة بعناية من كم هائل من المادة المبذولة للكاتب". وعلى الرغم من أن العبارة السابقة شديدة الوضوح، إلا أن توفيق يرى أنها "كلام كبير صعب طبعا"، ويعترض توفيق على آراء حافظ، بقوله: يطرح قضية أن فهم العمل الأدبي كهنوت مقصور على كهنة المعبد من النقاد، فلماذا تشكون من كهنوت رجل الدين إذن؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها