الثلاثاء 2017/06/20

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

"لعبة الملاك" لكارلوس زافون... ديكنز البرشلوني

الثلاثاء 2017/06/20
"لعبة الملاك" لكارلوس زافون... ديكنز البرشلوني
increase حجم الخط decrease
 
 تشكّل رواية "لعبة الملاك"(*) جزءًا من سلسلةٍ روائيّةٍ، ترتكز على "مقبرة الكتب المنسية" كثيمةٍ أدبيّة أساسيّة. ترتبط هذه الروايات بعضها ببعض عبْر الشخصيّات والمواضيع المتعددة؛ إلّا أنّ كلّ رواية منها مستقلّة عن الأخرى ومكتفية بذاتها. وقال أحد النقاد برهنت "لعبة الملاكط على براعة مؤلّفها في نسج حبكةٍ جارفة وغنيّة بالإثارة والتشويق. روايةٌ ممتعة بكلّ تفاصيلها، تمنح كارلوس زافون لقب "ديكنز البرشلونيّ" بلا منازع. تدور أحداث الرواية في برشلونة قبل عقدين من اندلاع الحرب الأهلية أي عشرينيات القرن الماضي وتوضح تفاصيل الظروف والإرهاصات التي أدت إلى اندلاع شرارة الحرب التي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون شخص.

ويتحرك الكاتب الشاب ديفيد مارتين، الشخصية المحورية التي تمسك بطرف الخط السردي للرواية وسط هذه الأجواء الملبدة المربكة، وحين يظن أنه يمر بأسوأ فترات حياته، يتلقى عرضا مغريا يصعب رفضه، دعوة سرية ينجرف وراءها ليجد نفسه متورطا في متاهة لا فكاك منها.

ويدور في فلك "مارتينط عدد كبير من الشخصيات الثانوية، مثل عائلة بائعي الكتب “سامبيري”، وشخصية “إيزابيل” قلب التاريخ النابض، وشخصية “كريستينا”، مرآة مارتين الصادقة، “بيدرو بيدال”، مرشد البطل كي يسلك طريقه وسط الطبقة الراقية، وهو روائي محب للفنون والموسيقى، ولكنه شخص تعس.
ولد كارلوس زافون، الذي يعدُّ اليوم من أفضل الكتّاب العالميين في مجال الفن الروائي، في 25 سبتمبر/ أيلول 1964. وهو صاحب العديد من المؤلفات والكتب الأكثر رواجاً، من بين أبرزها رواية "ظل الريح" الفائزة بالعديد من الجوائز والتي تمّ إدراجها ضمن قائمة أفضل الكتب لعام 2007 من قبل 81 كاتباً وناقداً في أمريكا اللاتينية وإسبانيا، إلى جانب 100 كتاب باللغة الإسبانية، على مدى السنوات ال 25 الأخيرة.  

وهنا مقطع من رواية "لعبة الملاك" ينشر بالاتفاق من الناشر:
مدينة الملاعين
1
الكاتبُ لا ينسى أوّل مرّةٍ يحصل فيها على نقودٍ أو ثناءٍ مقابل قصّةٍ ألّفها. لا ينسى أبدًا أوّل مرّةٍ يشعر فيها بسمّ الغرور العذب يسري في دمائه؛ فيحسَب أنّه قادرٌ على إخفاء انعدام موهبته عن الجميع، وأنّ حلمَه الأدبيّ سيؤمّن له سقفًا فوق رأسه، وطبقًا ساخنًا في آخر النهار، وأشدّ ما يرغب فيه على الإطلاق: أن يرى اسمه مطبوعًا على غلافٍ ورقيّ بائس، سيعمّر أكثر منه بلا شكّ. الكاتب محكومٌ بعدم نسيان تلك اللحظة، لأنها تتلاشى في أوانها ويصبح لروحه ثمنٌ ما.

بالنسبة إليّ، كانت "المرّة الأولى" في يومٍ بعيد من شهر ديسمبر عام 1917. كان عمري سبعة عشر عامًا وأعمل في «صوت المصنع»، وهي جريدةٌ متهالكة يقع مقرّها في مبنىً مليء بالسراديب إذ كان من قبل مصنعًا للأسيد الكبريتيّ؛ وما زال ذلك البخار يفوح من جدرانه حتى أفسد الأثاث والثياب والأرواح، بل وحتى أسفل الأحذية. كان مقرّ الجريدة ينهض خلف مقبرة بويبلو نويفو، التي تبدو كغابةٍ من الملائكة والصلبان؛ حتّى إنّ واجهة المقرّ، إذا نظرتَ إليها من مسافة بعيدة، اختلطت عليك بشواهد القبور العائليّة المنثورة على امتداد أفقٍتتغلغل فيه مئات المداخن والأبنية التي تتكاثف في منظرٍ لغروبٍ أبديٍّ، أسود وقرمزيّ، فوق برشلونة.

في المساء الذي تغيّرت فيه حياتي، استدعاني مدير التحرير، الدون ڤاسيليو موراغاس، قُبيل الإغلاق، إلى مكتبه الشبيه بقبرٍ مظلم، الواقع في آخر المبنى، حيث يدخّن لفائف السيجار بشراهة. كان للدون ڤاسيليو مظهرٌ جارح وشاربٌ يانع؛ يفعل ما يطيب له، ويتبنّى نظريةً تفترض أنّ الاستخدام المفرط للظروف والصفات أمرٌ يناسب المنحرفين جنسيًّا أو مَن يشكو نقصًافي الفيتامينات. إن صادف محرّرًا ميّالًا إلى النثر المزوّق، كلّفه بإعداد زاوية الوفيّات لثلاثة أسابيع. وإن عادت إليه هذه الظاهرة، بعد عملية التطهير، أرسله الدون ڤاسيليو إلى صفحات الأعمال المنزليّة ليبقى فيها إلى الأبد. كان جميع الموظّفين يهابون جانبه وهو على علمٍ بذلك.
- هل استدعيتني يا دون ڤاسيليو؟ - أطللتُ برأسي على استحياء.
نظر إليّ بعينين مواربتين. دخلتُ إلى مكتبه الذي تنبعث منه رائحة العَرَق قبل التبغ. تجاهل الدون ڤاسيليو حضوري وتابع مراجعة إحدى المقالات التي كانت على منضدته، وبيده قلم رصاص أحمر. وفي غضون دقيقتين، ملأ النصّ بإشارات الحذف والتصحيح، وهو يهمهم بألفاظ نابية كأنّي لست موجودًا أمامه. وحين احترتُ بما ينبغي فعله، لاحظتُ وجود كرسيّ مسنود إلى الحائط فجلست عليه.

- من سمح لك بالجلوس؟ - غمغم الدون ڤاسيليو دون أن تحيد أنظاره عن النصّ.
فانتفضتُ واقفًا وحبستُ أنفاسي. تنهّد مدير التحرير، وسقط القلم الأحمر من يده، وعدّل جلسته على المقعد كي يفحصني كما لو كنتُ أداةً لا فائدة تُرجى من ورائها.
- قالوا لي إنّك تكتب يا مارتين.
مضغتُ ريقًا، وحين فتحتُ فميخرجصوتيهشًّا ومضحكًا.
- بعض الشيء، حسنًا، لا أعرف، أقصد أنّي، أجل، أنا أكتب...
- إنّي واثقٌ من أنّك تكتب أفضل ممّا تتكلّم. وماذا تكتب، إن سمحتَ لي بالسؤال؟
- قصص بوليسيّة. أعني...
- وصلت الفكرة.
 
- ݒيذال يقول إنك شابّ واعدٌ ولا بأس بموهبتك. بالطبع، لاينبغي أن تبذل جهدًا كبيرًا في ظلّ المنافسة المتدنيّة في هذه الأنحاء. لكنّ رأي ݒيذال محلّ ثقة.
كان ݒيدروݒيذال أبرز قلم في «صوت المصنع»؛ وكانت زاويته الأسبوعيّة، التي تعلّق على الحوادث، هي الوحيدة التي تستحقّ عناء القراءة في الصحيفة كلّها. مؤلّفٌ لعدد من روايات المغامرة التي حصدت شعبيةً متواضعة، وترتكز علىحياة المجرمين من حيّ الراڤال– الضاحية الخامسة –وقد نسجوا مكائد غرامية لسيّداتٍ من الطبقة العليا. كان رجلًا في غاية الأناقة، لا يرتدي إلا البزّات الرسميّة الحريريّة وأحذية الموكاسيني الإيطاليّة الفاخرة. له مظهرٌ وتصرّفاتٌ توحي بأنه ممثّلٌ استعراضيّ، وشعره الأشقر دائم التصفيف واللمعان، وشاربه ناعمٌ فوق ابتسامته السخيّة التي تدلّ علىأنّه ميسور الحال، يعيش الحياة كما ينبغي. تنحدر سلالته من الهنود الحُمر، الذين حالفهم الحظّ في الأميركيّتين بتجارة السكّر؛ وإبّان عودتهم، انقضّوا بأسنانهم على الكعكة الشهيّة: مشروع توصيل الكهرباء إلى المدينة. كان والده عرّاب الأسرة، وأحد أبرز أصحاب الأسهم في الجريدة، ولهذا اعتاد الدون ݒيدرواستخدام مقرّها كصالة ألعابٍيقضي فيها على الملل الناجم عن عدم اضطراره للعمل ولو ليومٍ واحدٍ في حياته كلّها. لم يكن يهتمّ بأمر الجريدة التي تخسر يوميًا بقدْر كميّة الوقود الذي ينفقه على سياراته الحديثة التي تجول في برشلونة. إذ كان آل ݒيذال، وقد تضخّمت ألقابهم النبيلة حينها، يسعون إلى بسط نفوذهم على المصارف والأراضي الواسعة في منطقة إينسانش، ليصبحواأشبه بأسياد إمارة صغيرة.
وكان ݒيدرو أوّل من قرأ مسوّداتي التي كتبتها في طفولتي حين كنت أعمل في حمل القهوة والسجائر إلى المحررين في الجريدة. ولطالما وجد وقتًا يفرّغه لي ولقراءة نصوصي ومنحي بعض النصائح المفيدة. وشيئًا فشيئًا، عيّنني مساعِدًا لديه وسمح لي بتنضيد نصوصه على الآلة الكاتبة. وهو الذي أبدى استعداده لإرشاد خطواتي الأولى، إن أردتُأن أجرّب حظّي في عالم الأدب؛ فوفى بوعده وها قد رماني بين مخالب الدون ڤاسيليو، العقل المدبّر في الصحيفة.
- ݒيذ العاطفيٌّ ما يزال يؤمن بخرافات مناقضة كليًّا لثقافتنا الإسبانية، كإحالة الأمور لأهل الاختصاص أو منح الفرص لمن يستحقّها وليس لمن يأتي دوره في المحسوبيّات. يحقّ له أن يتصرّف كشاعر يهيم في أرجاء الأرض طالما أنّه مُترَفٌ حتّى البذخ. لو كان عندي واحد بالمائة مما يتبقّى لديه من نقود، لانكببتُ على كتابة الأشعار، ولجعلتُ العصافيرَ تأكل من يدي، وهي مسحورة من طيبتي وفتنتي.
- السيد ݒيذال رجلٌ عظيم – احتججتُ.
- بل أكثر من ذلك. إنّه قدّيس لأنّه، ورغم وجهك الذي يعبّر عن أقسى مظاهر المجاعة، ما لبث يصدّع رأسي منذ أسابيع وهو يكرّر على مسامعي: يا لطفل الجريدة المدلل كم هو نشيط وموهوب. إنّه يعلم أنّيأتناسى أحيانًا، لكنّه وعدني بهديّة فاخرة إذا ما سمحتُ لك بالفرصة، علبة من سيجار الكوييبا. وإنّ كلام ݒيذال منزّلٌ بالنسبة إليّ، كما لو هبط موسى من أعلى الجبل، حاملًا اللوح الحجري بين يديه، والحقيقة الساطعة تلوح فوق رأسه. لذا، ختامًا، ولأنّنا في موسم أعياد الميلاد، وكي يكفّ صديقك عن الإلحاح، سأمنحك فرصة البداية كالأبطال: في وجه الريح والأمواج العاتية.
- شكرًا جزيلًا يا دون ڤاسيليو. أعدك بأنّك لن تندم على...
- لا تندفعْ يا فتى. دعني أمتحنك.ما رأيك بالاستخدام المفرط، وغير المدروس، للصفات والظروف؟
- إنه عارٌ لابدّ أن يعاقِب عليه القانونُ الجزائيّ – أجبتُ بقناعة المناضل التائب.
هزّ الدون ڤاسيليو رأسه مستحسنًا إجابتي.
- حسنًا يا مارتين، الأولويات عندك في محلّها. في مهنة الصحافة، يصمد مَن لديه أولويّات وليس مبادئ. سأطلعك على الخطة. اجلس واصغ جيدًا لأنّي لن أعيد كلامي مرّتين.
 
(*) تصدر خلال أيام عن منشورات الجمل بترجمة معاوية عبد المجيد
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها