الجمعة 2017/06/02

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الشقاء القبطي

الجمعة 2017/06/02
increase حجم الخط decrease
تعرض الأقباط لهجوم دموي مزدوج في يوم احتفالهم بعيد الشعانين في نهاية العام الفائت، وتعرضوا منذ أيام إلى اعتداء وحشي اثناء قيامهم برحلة إلى أحد أديِرتهم التاريخية في اليوم التالي لعيد صعود المسيح، ومع هذه الاعتداءات المتكررة عادت"المسألة القبطية" إلى الواجهة، وتكرّر السؤال: كيف تخرج مصر من هذه الكبوة؟


في العصر العباسي الذهبي، حاول أبو الحسن المسعودي التعرّف على العقيدة المسيحية من "الداخل"، وكتب في "التنبيه والإشراف" رواية مختزلة لسيرة يسوع الناصري عرضها في باب "ذكر الطبقة الأولى من ملوك الروم". بدأ المؤلف بتحديد زمن مولد المسيح "ببيت لحم من بلاد فلسطين"، ثم انتقل إلى ذكر معمودية المسيح في نهر الأردن، وتحدّث بعدها عن صلب المسيح "عند النصارى"، وأضاف: "وهو عندهم مثل اليوم الذي أهبط فيه آدم من الجنة، ومات عندهم ودُفن وقام وانبعث من بين الموتى حياً، وصعد إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، ولا يصعد عندهم إلى السماء إلا من نزل منها".

في كانون الثاني/ديسمبر من السنة الفائتة، تعرّض الأقباط إلى اعتداء وحشي مزدوج يوم "أحد الشعانين" في كنيسة مدينة طنطا وكنيسة في محافظة الإسكندرية، وتبنى تنظيم داعش هذا الاعتداء المزدوج. جرى ذلك عند انطلاق الاحتفالات بالشعانين، وهو العيد الذي ذكره أمير حماه أبو الفداء، في حديثه عن أعياد النصارى في "المختصر في تاريخ البشر"، حيث قال في تعريفه: "ومن أعيادهم الشعانين الكبير، وهو يوم الأحد الثاني والأربعون من الصوم، وتفسير الشعانين التسبيح، لأن المسيح دخل يوم الشعنينة المذكورة إلى القدس راكباً أتان (أي حمارة) يتبعها جحش، فاستقبله الرجال والنساء والصبيان وبأيديهم ورق الزيتون وقرأوا بين يديه التوراة إلى أن دخل بيت المقدس واختفى عن اليهود يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وغسل في يوم الأربعاء أيدي صحابه الحواريين وأرجلهم ومسحها في ثيابه، وكذلك يفعل القسيسون بأصحابهم في هذا اليوم".

يوم الجمعة الفائت، تعرّض الأقباط من جديد إلى مجزرة جديدة في مصر سقط فيها عشرات القتلى والجرحى، وذلك اثناء في طريقهم لزيارة "دير الأنبا صموئيل المعترف" في المنيا، جنوبي القاهرة. وقع هذا الهجوم مع بداية شهر رمضان، في اليوم الذي يلي احتفال المسيحيين بِعيد "خميس الصعود"،  وهو اليوم الذي "تسلق المسيح مصعداً إِلى السماء، من طور سيناء"، كما كتب أبو الفداء. يُعتبر عيد الصعود واحدًا من اثني عشر عيدًا تحتفل بها الكنيسة، وهو يخلد ذكرى صعود المسيح إلى السماء بعد أربعين يومًا من عيد القيامة، وفقًا للمعتقد المسيحي الذى يؤمن أن المسيح قام بعد وفاته بثلاثة أيام.

في الخلاصة، تعرّض الأقباط لهجومين دمويين اثناء احتفالهم بعيدين من أعيادهم الكبيرة، وحصلا بعد سلسلة متواصلة من الاعتداءات، بدأت العام 1972 في حي الخانكة في محافظة القليوبية - شمالي القاهرة، وتلتها أحداث الزاوية الحمراء في القاهرة العام 1981، ثم أحداث قرية الكشح في سوهاج العام 1999، وبعدها اشتباكات الاسكندرية العام 2006، ثم الاعتداء على مطرانية نجع حمادي العام 2010. تفاقم الوضع في السنة التالية مع تفجير كنيسة القديسين في محافظة الإسكندرية، واندلاع أعمال العنف في منطقة إمبابة، وتجددها في حي "ماسبيرو" إثر تظاهر الأقباط احتجاجاً على هدم مبنى كنيسة في محافظة أسوان. بعدها،  تعرضت عشرات الكنائس للتخريب والتدمير غي عدد من المحافظات المصرية، إثر إطاحة الرئيس السابق محمد مرسي في صيف 2013. تتكرر هذه الاعتداءات، وتتكرر معها الدعوات إلى استعادة اللحمة الوطنية التي جسّدتها قديماً ثورة 1919، غير أن هذا الحديث لم يعد قادراً على اخفاء عمق الشرخ الطائفي المتعاظم في مصر.

في الواقع، تغيّر الواقع الإجتماعي في مصر بسبب التحولات السياسية التي عرفتها البلاد في العقود الماضية، وباتت صورتها مغايرة تماما للصورة التي جسّدتها في الأمس. تحت عنوان "سعد باشا يخالف التقاليد ويعيّن وزيرين قبطيين"، نشرت مجلة "الدنيا المصورة" في نيسان-ابريل 1933 تحقيقاً استعادت فيه تاريخ مصر في عشرينات القرن الماضي، وأشارت إلى التحوّل الكبير الذي اختبرته مصر في ذلك الزمن. في العام 1924، كُلّف سعد زغلول بتأليف الوزارة الدستورية الأولى، فاختار واصف غالي للخارجية، ومرقص حنا للأشغال، فصار في الحكومة الواحدة وزيرين قبطيين للمرة الأولى. سار مصطفى النحاس باشا على على سنّة الزعيم الأكبر، فاختار واصف غالي باشا لوزارة الخارجية، ومكرم عبيد لوزارة المواصلات. وعندما شكّل حكومته للمرة الثانية، اختار من جديد واصف باشا للخارجية أيضاً، وأسند المالية إلى مكرم عبيد.

توّجت هذه القرارات سلسلة من الإصلاحات القانونية صدرت في ظل حكم أسرة محمد علي باشا، من إبطال قيود الزي المفروضة على الأقباط منذ قرون، إلى تعيين مسيحيين كمأمورين على مراكز مهمة في البلاد، إلى إلغاء الجزية في العام 1855، إلى تشريع دخول النصارى في الجيش، إلى ترشيح الأقباط في انتخابات أعضاء مجلس الشورى، إلى تعيين قضاة منهم في المحاكم. انضم عدد من أعيان القبط إلى الحزب الوطني، ودخلوا من خلاله العام 1907 معترك السياسة المصرية. اهتزّت هذه الشراكة مع صعود فكرة "الجامعة الإسلامية" واغتيال رئيس الوزارة بطرس باشا غالي في شباط 1910 على يد أحد أتباع الحزب الوطني، غير أنها عادت وتوطّدت في عهد تسلم "حزب الوفد" السلطة.

العام 1952، ألغت "حركة الضباط الأحرار" سائر الأحزاب وأعلنت التأميمات، وتضاءل الحضور القبطي في السياسة بفعل هذه الاجراءات. أقرّ عبد الناصر قانوناً جديداً يقضي بتعيين النواب الأقباط، واعتبر المسيحيون أن هذا القانون يماثل المكرمة، غير أنهم لم يشعروا أن وجودهم مهدّد. تبنّت الثورة الجديدة شعارات ثورة 1919، وأحيت صورها في السينما والمسرح. في صيف 1964، وضع عبد الناصر حجر الأساس في بناء الكاتدرائية البطريركية الجديدة في العباسية، وكان قد تبرّع بآلاف الجنيهات لبنائها، وحثّ أولاده للتبرّع من مصروفهم الشخصي لهذا الغرض. بعد أربع سنوات، افتتح الصرح بحضور البابا كيرلس والرئيس عبد الناصر وإمبراطور الحبشة هيلا سلاسي، وأبرز الإعلام الرسمي هذا الحدث كتعبير جليّ عن الترابط بين المسلمين والأقباط.

سلك أنور السادات طريقاً مغايراً منذ تسلمه السلطة، فحمل لقب "الرئيس المؤمن"، وقال: "أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية"، وأطلق التيار الديني الأصولي بهدف ضرب التيارين الناصري واليساري، جعل من "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". بدأ صعود التيار الإسلامي المتشدّد في هذه الفترة، وترافق مع تصاعد الشحن الطائفي، ومع تصاعد هذا الشحن، تكررت الاعتداءات على الأقباط بشكل ممنهج. بعد مرور مئة عام على إلغاء الجزية، طالب الداعية السلفي عبد الله عبد الحميد أقباط مصر بالدخول في الاسلام أو دفع الجزية، وهاجم القائلين بأن "المسلمين والنصارى في مصر نسيج واحد". وأكّد داعية جماعة الجهاد محمد الظواهري ضرورة قيام المسيحيين بدفع الجزية أو ترك مصر.

أُفرغ  شعار "وحدة عنصري الأمة المصرية" من مضمونه التاريخي، وبات وكأنه من زمن مضى، وراج السجال حول "إباحة تهنئة الأقباط بأعيادهم". رفض السلفيون تهنئة الأقباط بمناسبة عيد الميلاد، كما رفضوا دخول كنائسهم، وجاهروا بموقفهم، في نهاية 2012، نشر زين العابدين كامل في جريدة "النور" بياناً بعنوان: "القول الفصل حول حضور القداس وفتاوى العصر"، وتوجّه بكلامه إلى القارئ، فنصحه "أن يخلص النية لله تعالى، ولا يتعصب إلا للحق"، وجعل رده على منتقديه في عشر نقاط، وتساءل في البند الأول: "كيف يجلس المسلم الموحد بالله في مكان يُكفر فيه بالله، ويُقال فيه أن الله تعالى له ولد، وأنه صلب ومات يوم الخميس، ثم قام يوم الأحد ليجلس على يمين الرب أبيه؟". استعاد الكاتب ما يُعرف بـ"الشروط العمرية"، ومنها "أن أهل الذمة مِن أهل الكتاب لا يُظهرون أعيادهم في دار الإسلام"، وتساءل: "فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها والمشاركة فيها؟". وختم حديثه بالقول: "لا تفرط يا أخي في عقيدتك وفي إسلامك، فلا مجاملة على حساب الدين، علمًا بأن العلماء أجازوا تهنئتهم في الأمور الدنيوية كأمر الزواج، وقدوم مولود، ونحو ذلك".

في هذ الفترة، نشر عزمي بشارة كتابه "هل من مسألة قبطية في مصر؟"، وفيه رأى "إن هناك ملفاً قبطياً في مصر، وأنه ملف حقيقي وليس نتاج تآمر أجنبي أو تحريض إسلامي"، والسبب يكمن في فشل النظام المصري من الانتقال من نظام الملل العثماني إلى المواطنة التي تؤمنها الدولة الحديثة. ساوى الدستور بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية، غير أن بعض المواقع في الدولة ظل محظوراً على المسيحيين، فتمثيلهم في القضاء والاعلام والديبلوماسية والجيش والشرطة لا يتعدّى الإثنين في المئة. وفي مصر، 17 جامعة حكومية، لكل واحدة منها مدير وثلاثة نواب للمدير، ولهذه الجامعات أكثر من 270، غير أننا لا نجد في هذه المناصب أي قبطي. تختزل هذه الأرقام عمق المشكلة، وتظهر استمرارية نظام المِلل بعد زوال الدولة العثمانية رسمياً في العام 1923.

منذ بضع سنوات، قامت الدولة الهولندية بتسهيل هجرة الأقباط، وردّت الدولة على هذا القرار بقولها: "لا تعبثوا بهذا الملف، فهو خط أحمر". تطرّقت مجلة "روز اليوسف" إلى هذا الملف، ورأت أنّ "القبطي يبحث عن بلد آخر له يستطيع أن يشعر بالأمان فيه على نفسه وعلى أسرته، فالموضوع لا علاقة له بمن يبحث عن وضع اقتصادي أفضل أو حياة أفضل". في ظل استمرارية "نظام المِلل"، وتنامي انتشار السلفية، تتكرر الاعتداءات على الأقباط، وتنتهي في أغلب الأحيان بجلسات صلح عرفية بدلاً من معاقبة مَن يقف وراءها. تهرب السلطة من مواجهة "المسألة القبطية" في الداخل المصري، وتدعو إلى معاقبة دول تدعم الإرهاب وتمده بالسلاح والتمويل والتدريب، وتستهدف بسلاحها الجوي معسكرات للجهاديين في ليبيا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها