الجمعة 2017/06/16

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

في "عجين".. بريطانيا تخبز يهودها مع مسلميها

الجمعة 2017/06/16
في "عجين".. بريطانيا تخبز يهودها مع مسلميها
حين يسقط "عياش" بعضاً من "الماريجوانا" في العجين، يتزايد الإقبال على مخبوزات "نات"
increase حجم الخط decrease
في العام 1986 عرض الموسم الرابع والأخير من حلقات المسلسل الكوميدي الإنكليزي، "إنتبه للغتك" (Mind Your Language)، لكن النجاح الواسع الذي ناله العمل في مواسمه الثلاث الأولى، بين 1977 و1979، لم يتكرر مرة أخرى. ففي أقل من عقد، كانت تركيبة المجتمع البريطاني وخريطة الكوميديا التلفزيونية قد تغيرت بالكامل. يشعر الأصدقاء البريطانيون بالخجل نيابة عني، حين أخبرهم بأن "إنتبه للغتك" هو العمل البريطاني الكوميدي المفضل لدي.

فالمسلسل الذي تدور أحداثه في فصل مسائي لتعليم الإنكليزية للمهاجرين في لندن، لا يتورع عن استخدام كل القوالب النمطية الممكنة وبأكثر أشكالها فجاجة. فالطالب الباكستاني لا يكف عن العراك مع زميله الهندي السيخي، وتبادل اللكمات أحياناً والسباب المرفق بتهمة "يا كافر" في معظم الوقت، على خلفيه معركه أقل جسدية بين الرجل الياباني المؤدب بشكل مفرط وغريمته الصينية التي لا تفتح فاهاً سوى للاستشهاد بمقولات الرفيق العظيم "ماو". وفي مواجهة المربية الألمانية التي تفتقد لحس الدعابة كلياً، وغنج الطالبة الفرنسية التي يتصارع على غرامها اليوناني والإيطالي في فجاجة ذكورية تليق بهما، فإن ناظرة المدرسة المتزمتة لا تكف عن التعبير عن إشمئزازها من الأجانب، بينما يلعب المدرس الإنكليزي الشاب أحياناً دور حمامة السلام، إلا أنه لا يبدو أقل عنصرية منها، حين يشرح لطالبه الأفريقي أن: "الطائرة الجامبو كبيرة مثل الفيل لكنها تطير".

لكن المسلسل الذي نال جماهيرية واسعة بين ضحاياه، وفي الهند وباكستان خاصة، كما في بريطانيا نفسها، لا يعود نجاحه لمجرد تحرره من الدرس الأخلاقي، ولا من تجرؤه على اللغة المنضبطة سياسياً، بل في تعبيره بصدق عن توتر نهاية السبعينيات البريطاني من سؤال الهجرة الجديد حينها، ومن قبوله بفكرة اختلاف القادمين الجدد والصراع في ما بينهم. فالطلبة بالرغم من تصالحهم قليلاً مع الوقت، لا يتوقفون عن العراك ولا يفقدون من حدة صفاتهم النمطية سوى القليل.


يعيد فيلم "عجين"، الذي يعرض في الشاشات البريطانية حالياً، محاولة التصدي لسؤال المهاجرين في علاقتهم بعضهم ببعض. فالفيلم البريطاني- المجري المشترك، والذي تدور أحداثه في شرق لندن، الحي المعروف تاريخياً بكثافة جاليته اليهودية، يضع الخباز اليهودي المسن، "نات"، الذي يعاني مخبزه صعوبات مالية، في مواجهة الشاب "عياش". يقدم "عجين" معالجة كوميدية مقلوبة، لفيلم "مسيو عمر وأزهار القرآن". ففي مقابل عمر، البقّال التركي المسن، ورفيقه الصبي اليهودي مومو، يعكس الفيلم مصفوفة العلاقات الجيلية والدينية بين بطليه. في السيناريو الأصلي للفيلم، كان "عياش" من أصل شرق أوسطي، وهو ما عدله لاحقاً مخرج الفيلم، جون غولدشميدت ليصبح الشاب المسلم، من دارفور. لكن محاولة المخرج للتخلص مما وصفه بـ"كليشية" اللاجىء الشرق أوسطي، لم تقده سوى إلى لسقوط أكثر في حبائل التنميط، ليصبح "عياش" نموذجاً لتقاطعات نمطيات المسلم والعربي والأسود والمهاجر واللاجىء، معاً.

يلتحق "عياش"، بمخبز "نات" كمساعد متدرب، تحت ضغط من والدته التي تحاول دفعه بعيدا من البطالة وتجارة المخدرات. وبحسب الحبكة التي يمكن توقعها مع الدقائق الأولى من "عجين"، والتوجس بين بطلي الفيلم، والمؤسس على خليط من التصورات النمطية المتبادلة والعدوات التاريخية، سرعان ما ينقلب رأساً على عقب. فحين يسقط "عياش" سهواً بعضا من "الماريجوانا" التي يبيعها، في خليط العجين، يتزايد الإقبال على مخبوزات "نات" بشكل دراماتيكي. يقود التواطؤ المتبادل على نجاح العجين المخلوط بين البطلين، إلى نهايات كلها سعيدة. ينجح "نات" في إنقاذ مخبزة المتعثر مالياً من السقوط في يد المستثمر الجشع، الطامع في الإستيلاء عليه بمساعدة ابنه العاق، بينما ينتشل"عياش" نفسه من فخ البطالة والجريمة، وينفك زيف التنمطيات المتبادلة واحداً بعد الآخر.

نال فيلم "عجين" استقبالاً متواضعاً من النقاد، فعدا حبكته وقفشاته المتوقعة والتي تفشل في اضحاك الجمهور أو إدهاشه، فإن الرسالة الأخلاقية الزاعقة، والتي لا ينقصها حسن النية بالطبع، تسقط في الفخ الذي كان قد تجاوزه "إنتبه للغتك" قبل عقود. هو كسل الإتكاء على مخيال المجتمع الجديد كبوتقة للصَّهر، وكقالب للخبز، تختلط فيه مكوناته الوافدة، لتنتج شيئاً واحداً متجانساً، فيما يحاول الهروب من التنميطات الصغيرة، فينتهي إلى نموذج أكثر نمطية وشمولية. فالعلاقات بين الجاليات، وإختلافاتها، لا يمكن تصورها أو قبولها سوى، في صورتها الأكثر مثالية وقياسية، أي الإنصهار والتحقق بمقاييس النجاح في المجتمع المضيف. النوايا الحسنة لا تنتج أفلاماً جيدة بالطبع، أما السخرية الوقحة فربما لها أحياناً أن تجعلنا، أكثر قبولاً لاختلافاتنا وخلافاتنا، وترويضها، من دون انكارها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها