"هل قرأت ديوان ابراهيم سمعان الجديد؟"، هذا الاستفهام ليس دعاية ترويجية معلقة في احدى المكتبات، أو منشورة في احد مواقع الانترنت، أو حتى منتشرة في اللوحات الإعلانية في الطرق، بل إنه في ورقة مطبوعة وملصقة على واجهة أحد المحلات قرب المستشفى العسكري في منطقة بدارو(بيروت)، ولم يطبعها، ويلصقها سوى صاحبها، أي ابراهيم سمعان، الذي يمضي وقته في ذلك المحل اياه، حيث لا يبيع أي شيء، لكنه، يعرض إنتاجه الشعري فقط. فمن يمرّ بهذا الدكان الشعري، ويقرأ الاستفهام الذي يرتفع على واجهته، يعتريه نوع من الفضول، الذي يحمله الى التساؤل عن ديوان سمعان الجديد، وعن شخصه أيضاً.
وبالفعل، قرر كاتب هذه السطور زيارة الشاعر، وإجراء مقابلة معه، لكن سرعان ما باءت المحاولة بالفشل، لأن سمعان، وعلى الرغم من استعراضيته الدكانية والشارعية والشخصية، يرفض "رنة الإعلام وطنته" على حد قوله، ولا يحبذ "إطلاق التصريحات". فهو يجلس في دكانه، ومن يريد الاطلاع على شعره، يأتي اليه، ويدور معه في رجائه المكتظ بالكتب والاوراق واللوحات، بالاضافة الى أغراض شتى التي لا يعرف الزائر سبب تجميعها على نحو لا ترتيب فيه إطلاقاً.
يبدأ سمعان في الكلام. نبرته عالية، وصوته يقتدي بصوت سعيد عقل، اذ، وحين يتحدث عن نفسه، يشدد على عباراته، حاسباً أنها ستباغت سامعها وتدهشه: "لم أتعلم كتابة الشعر، لقد ولدت شاعراً". فالشاعر، صاحب العشرات من الدواوين، التي يضعها بمجملها على منصة خشبية كبيرة ومغبرة، قلما يتكلم عن كتابته، بل إنه، ومن لحظة الى أخرى، يذكر أن هذه الشخصية الثقافية أو السياسية أو الدينية النافذة قد كتبت عنه مقرظةً اياه، بسبب "عبقريته"، أو بسبب "حبه للبنان".
لكن، إثر التلفت حول الشاعر، من الممكن تلمس الموضوعات التي يتناولها في شعره، كالوطن، والحب، والمرأة، والجمال، وجميعها، على ما يبدو من الاقتباسات التي تتوزع على الجدران، يتطرق إليها سمعان بالمبالغة، التي تريد أن تشي بعنفوان كاتبها وبكبريائه، عدا عن كرهه للمظاهر الاجتماعية الحديثة. هذا، وعلى سبيل المبالغة نفسها، يحاور سمعان المتنبي، ويطلب منه الاطمئنان الى كون "النبوءة" لا تزال بخير، بحيث ان هناك شعراء ساهرون على نقلها إلى غيرهم.
ثمة شيء من لوثة العظمة في شعر سمعان، وهي، على الأرجح، تتصل بنمطه، إذ إنه منبري بامتياز. لكن، سمعان، وبما أن منبره مفقود، أو غير موجود في الأصل، يستعيض عنه بآخر، يصنعه، بدايةً، بشخوصه، نبرةً وصوتاً وكلاماً، مثلما يصنعه بدكّانه أيضاً. فهذا الدكان هو بديل عن المنبر، بديل مكتظ بكل أدوات الاستعراض، التي تتراكم فوق بعضها البعض، من قصاصات الصحف، التي تحدثت عن سمعان، إلى الجوائز، والدروع، فضلاً عن الصور، التي تظهر الشاعر واقفاً إلى جانب السياسيين، من قبيل سليم الحص.
مع الإشارة إلى أن ذلك الدكان الميديو-شعري، القريب بوضعه من حساب "فايسبوكي" غير إفتراضي البتة، لا يقتصر دوره على أنه صالة عرض، بل إنه مكتب الشاعر أيضاً. فيجلس الأخير خلف طاولته، ويسجل على لوح كرتوني ضخم ما دار في خاطره طوال النهار، قبل أن يحوله إلى قصائد زجلية وكلاسيكية.
وقد يصح القول إن ابراهيم سمعان يمثل حالة بعينها، وهي حالة الشعر المنبري في آخر فصول تقهقره. فحين كان أصحابه يستخدمون القصيدة لكي يحققوا في الأتراح والأفراح وجاهة إجتماعية ما، ها هي هذه الوجاهة، التي يواظبون على صناعتها، تنقلب إلى واجهة إستعراضية، لا تجذب المحدق إليها سوى بفعل غرابتها المتقادمة والمتورمة.
في نهاية المقابلة، التي رفضها سمعان، قال، مشيراً إلى اللوح البلاستيكي الموجود أمامه، بأنه يكتب عليه كل شيء يحدث معه على طول اليوم: "وأتحدى أي شخص في العالم أن يكون منظماً مثلي". وعندها، ودعت الشاعر، وفيّ إحساس بأن الشعر، وأي كان وهمه، قد يعين أحدهم على قساوة عيشه، ذلك، حتى لو بدا شعراً "دكانياً"، ولا زبائن يمضون إلى إبتياعه وقراءته.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها