الثلاثاء 2017/06/13

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

فن "الباتشورك".. قصاقيص التاريخ وكولاج البسطاء

الثلاثاء 2017/06/13
increase حجم الخط decrease
تأبى القاهرة الفاطمية إلا أن تفجّر علاماتها المشرقة في قلوب عشاقها وروادها، خصوصًا أولئك الذين يقصدونها في موسمها الرمضاني شديد الخصوصية والازدحام، إذ يصافح النهار طوفان البشر قبل الإفطار، ويعانق الليل أفواجًا أكبر، فلا يكون هناك موطئ لقدم حتى الفجر.

مُخطئ من يظن أنه لا يقصد غير وجه التاريخ في أثناء تجواله في الأزهر والحسين والغورية وخان الخليلي وبين القصرين والنحاسين والصنادقية والخيامية والحارات والأزقة والبوابات العتيقة، وغيرها من مسالك ومعالم قاهرة المعز لدين الله، وعلى رأسها الشارع الذي يحمل اسمه، ومسجل به أكبر عدد معروف من المواضع والنقاط الأثرية. مُخطئ من يحرك قدميه فوق خريطة هذا الطقس السحري للمكان، إذا ظن أنه مجرد مختَطَف أريد له الإبحار في الزمان.

سياحة القاهرة الفاطمية ليست حصة تاريخ بقدر ما هي ينابيع ثقافة واشتباكات حياة، وهذا سر تفرد هذه المناطق دون سواها من المزارات الأثرية التي لا تشهد حشودًا مماثلة. كل تفصيلة من التفاصيل، يمكن أن يكون لها جمهورها الخاص. كل متجر أو حانوت قديم يمكن أن يكون له زبائنه. كل مطعم راسخ أو مقهى أصيل وله رواده. كل صناعة فنية ويدوية لا تزال تجتذب عشاقها: الذهب، الفضة، النحاس، الصدف، المسابح، الأحجار الكريمة، السيرما، الأقمشة اليدوية، السجاد، الخيامية، وأخيرًا فن "الباتشورك".

"الباتشورك" (patchwork)، أو تحويل بقايا الأقمشة والخامات المهملة إلى تحف وقطع فريدة، هو فن المعاصرة والأصالة في آن، فهو فن الاستخدامات الحياتية والمنزلية المتعددة بأسعار مناسبة، وهو الوريث الأحدث للفنون الفرعونية والإسلامية التقليدية المعروفة، فضلًا عن أنه "كولاج" المواد السهلة الطيّعة في أيدي العاديين والبسطاء، الذين صار يضحك التاريخ بين أصابعهم زاهيًا.

انتعش "الباتشورك" في مصر خلال السنوات الأخيرة على نحو واسع، وازدادت صور منتجاته ومخرجاته، وتراوحت بين الديكورات الجمالية والاستخدامات العملية، فهناك اللوحات والسجاجيد واللوحات والحوائط، مثلما أن هناك أغطية الوسائد والمفارش والملاءات والحقائب ولعب الأطفال والألحفة والحافظات. فلسفة الفن تنبني دائمًا على البساطة والتلقائية وعدم التعقيد. الحس التشكيلي مبعثه التناغم والتوازن، وفق الحدس الفطري للفنان، ودراسة هندسات الزخارف والألوان، أما أصول الفن فمنبعها جذور التراث الفرعوني والإسلامي، كما في صناعة الأقمشة الملونة والخيامية، كذلك فقد أفاد "الباتشورك" من آليات فنية معاصرة وحديثة مثل "الكولاج" في الرسوم وفي الخامات.

في القاهرة الفاطمية، على قاصد فن "الخيامية" أن يتوجه إلى السوق التي لا تزال تحمل الاسم ذاته "سوق الخيامية"، وتقع بالقرب من باب زويلة (بوابة المتولي) في نهاية الغورية، ويمثل هذا الفن المصري ذو الجذور الفرعونية صناعة الأقمشة الملونة، التي تستخدم عادة في السرادقات. وقد ارتقى فن الخيامية في العصر الإسلامي، خصوصًا في عهد الفاطميين والمماليك، حيث امتلأت الأقمشة بالنقوش والزخارف المختلفة، كما اقترن فن الخيامية في وقت لاحق بقداسة خاصة، مبعثها تزيين "كسوة الكعبة" بخيوط الذهب والفضة، إذ كانت مصر تتولى تصنيع وتزيين وإرسال هذه الكسوة، حتى ما بعد منتصف القرن الماضي.

أما قاصد "الباتشورك"، فنون قصاقيص القماش، فعليه أن يتوجه إلى "خان الخليلي"، بالقرب من مسجد الحسين، حيث محلات ودكاكين وبازارات بيع منتجات الخان من المصنوعات الفنية واليدوية. وتتنوع مبيعات "الباتشورك" بين قطع الديكور، وبين قطع الاستعمالات اليومية، بوصف هذا الفن الفريد فن حياة في المقام الأول، يقوم في مفهومه البدائي على مبدأ عدم إهدار الخامات، القصاقيص تحديدًا، وإعادة تدويرها بأصابع خبيرة في نسج تخليقي مغاير.
قصاقيص القماش، في "الباتشورك"، هي مواد صناعة الحياة بتراكيب وزخارف وهندسات جديدة، وفق منطق لا يخلو أساسه من نزعة اقتصادية، وهنا جوهر الفرق بينه وبين فنون أخرى قد تتعاطى مع الأقمشة والقصاقيص وفق منطق تجميعي أو تركيبي آخر، كالكولاج مثلًا. إن فن الكولاج، وفق ويكبيديا، مستمد من كلمة فرنسية هي "Coller"، بمعنى لصق، وهذا الفن البصري يعتمد على قص ولصق العديد من المواد معًا، لتكوين شكلٍ جديد، وكان لاستخدام هذه التقنية تأثيره الجذري على رسامي الزيت والتجريديين في القرن العشرين.

وقد امتد الكولاج لاحقًا ليشمل قصاصات الجرائد والورق الملون والكراتين والصور الفوتوغرافية وغيرها، ويتم لصق هذه النثارات على قطعة من الورق أو القماش، وصار للكولاج حضور كبير في الفن الحديث، مع بروز فنانين أمثال بابلو بيكاسو، ثم ظهور السورياليين الذين توسعوا في استخدامه. ويقترب الكولاج من "الباتشورك" النمطي في حالة اعتماده بشكل أساسي على الأقمشة، على أن طبيعة زخارف وتيمات وعناصر وألوان "الباتشورك" تبقيه فنًّا لا يقبل الاختلاط.

إن أبرز ملمح لفن الأصالة والمعاصرة "الباتشورك" أن وحداته الأساسية لا تخرج عن الإطار التراثي، سواء الفرعوني أو الإسلامي، وقبل أن يتطور هذا الفن إلى سمته الراهن، فقد عرفت قصاقيص الأقمشة فنونًا غير بعيدة الصلة، منها: الأبليك، والتضريب، والترقيع، وغيرها. على أن المتابع للمشهدين؛ التشكيلي والتسويقي في آن واحد، خلال السنوات القليلة الماضية، يلاحظ اهتمامًا فائقًا بفن "الباتشورك" الحديث، باعتباره فنًّا حيويًّا، يلبي احتياجات فئات مجتمعية عديدة، سواء ممن يمارسون الفن في بيوتهم أو ورشهم، أو يحرصون على اقتناء منتجاته بتكلفة مقبولة.

وتشهد مصر العديد من الأسواق المحلية الدائمة والمتنقلة لمنتجات فن "الباتشورك"، وتأسست بأيدي فنانين تشكيليين عشرات المعارض وخطوط الإنتاج التي يتفاعل معها عشاق هذا الفن من الممارسين والمقتنين، كما تم إنشاء جمعية محبي فن الباتشورك، وظهرت مجموعة من الصفحات الإلكترونية على الإنترنت لدعم "الباتشورك" وتسويق منتجاته، وصارت له أساليب إعلانية مستقلة، بل وصدرت بعض أعداد من مجلة مختصة بهذا الفن بعنوان "باتشورك وقصاقيص"، الأمر الذي خرج بالباتشورك من دائرة التخصص الضيقة إلى الانتشار، شأنه شأن "السيرما" وغيرها.

ومن الشهيرات في مجال "الباتشورك" بمصر، التشكيلية الدكتورة فادية كوري، التي تولت تأسيس عدد كبير من الصفحات الإلكترونية للتعريف بهذا الفن، والترويج له، كما أنها من أوائل الداعين إلى تأسيس جمعية محبي فن الباتشورك بمصر. ومن خلال عدد من الفيديوهات والمقالات المتخصصة، المزودة بصور وافية، التي تنشرها فادية كوري على صفحات "الباتشورك"، توضح أن فلسفة هذا الفن انطلقت في الأصل لتحويل المهملات إلى منتجات فنية قيّمة، ثم تطور "فن الحاجة" ليدخل في إطاره معظم ما نتداوله، خصوصًا من الخيوط والأقمشة.

ولا يختلط "الباتشورك" مع غيره من الفنون، لأن أصوله وجذوره واضحة، ووحداته الهندسية الشهيرة ليست بالتنوع الكبير. وأقدم وحدات "الباتشورك" تعود إلى الفن المصري القديم لدى الفراعنة، كما توضح كوري، وهذا النوع من الباتشورك عرفته أسرة توت عنخ آمون، واسمه "لوج كابن"، ويتكون من مربعات، وهناك دائمًا مركز، تُلَف حوله شرائط باتجاه الساعة. أما الجذور الإسلامية للباتشورك، فلعل أبرزها فن "الخيامية"، حيث تقص الشرائط وتلف بشكل معين، يتسق مع زخارف تلك المرحلة. ثم تعددت تيمات "الباتشورك" بعد تعرف الغرب عليه فيما بعد الحروب الصليبية، كما أن بلادًا أخرى مثل اليابان والصين لها إسهامات تخصها في تطوير "الباتشورك" أيضًا. وقد يأخذ أحد أنواع "الباتشورك" اسمًا مختلفًا للتفرقة بينه وبين "باتشورك" آخر، كما توضح كوري، فمثلًا القصاقيص سداسية الشكل تسمى "الهيكساجون".

وتبقى كلمة السر في "الباتشورك" مقترنة بتلك الرؤية الفنية المفرطة في المحلية، سواء من حيث التشبث بعناصر ووحدات التراث، أو استخدام الألوان والأصباغ الخاصة وثيقة الصلة بالبيئة، بالإضافة إلى العلاقة التفاعلية بين الفنان وبين الخامة، التي يطوعها ببساطة وتلقائية كأنما يرسم ذاته. هنا، قد يخرج "الباتشورك" عن سكونيته، وتطل منه أنفاس الحياة وألوانها الدافئة.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها