صورة الشاعر وهو يموت بصمت في مقعدهِ، وحيداً، لم تغب عني. ألهمتني بقصيدة عن موت الشعراء في ما بعد. لم أكن أعرف سبتي جيداً، نظراً لاغترابهِ لسنوات طويلة، ولم نكن نطّلع على أعمال المغتربين لعدم توافرها في البلد آنذاك. كنت قد قرأتهُ وتابعتهُ مثل العشرات من الشعراء والكتّاب أمثالي، بعدما توافر الأنترنت في العراق إبان الاحتلال الأميركي العام 2003. لكن تفاصيل رحيلهِ انطبعت في ذاكرتي مثل قصيدة لا يمكن نسيانها.
توالت الخسائر الشعرية العراقية بعد ذلك بغياب رائدة الشعر الحديث نازك الملائكة، التي رحلت في "منفاها" القاهري صيف 2007. وقتها اندهشتُ أنها كانت مقيمة في القاهرة، كل ظني في غياب أخبارها لسنوات كثيرة عن الميديا والصحافة أنها كانت مقيمة في بغداد، حيث تكوّنت وكوّنت مخيلتنا الشعرية معها. وقتها شعرتُ بضيق نفسي شديد، وأنا أحاول أن أحارب ظلمة الحرب والدم. كتبتُ في رحيلها شهادة رثاء سريعة ومتوترة ومندفعة بعض الشيء. كانت الشهادة وليدة لحظة الهاجس الذي استمر عندي، وتجدد مع رحيل سركون بولص في إحدى مستشفيات ألمانيا في أكتوبر 2007. هكذا بكل بساطة يرحل مَن كتبتُ عنهُ قصيدة "في العام القادم سأذهب إلى أميركا" قبل أشهر من رحيلهِ. كان كلّي أمل أن أستطيع زيارة أميركا يوماً. ومرت الأيام وتحققت نبوءة قصيدتي وخرجت من البلاد وزرتُ أميركا، لكن باب الشاعر كان موصداً على الغياب.
في رحيل شعراء التقيناهم أو لم نلتقهم، أحببناهم وتربينا على قصائدهم، لم يكن "فايسبوك" معروفاً بعد. كانت صلتنا بأخبارهم تكاد تكون ذاتية ومكتومة في النفس ولا نستطيع التعبير عنها سوى بنشر شهادة أو قصيدة رثاء إن أثّر فينا رحيلهم كثيراً. لكن الأمر اختلف الآن.
في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، أعاد الهاجس تدوير نفسهِ في داخلي. مواقع التواصل الاجتماعي جعلت من الشعراء والكتّاب، شئنا أم أبينا، جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل يومنا. عاد هذا الهاجس مؤخراً بشكل أو بتجسد مختلف. تحول من هاجس مزعج إلى مسؤولية مرعبة: أن تعيد ذكرى وجود هؤلاء الراحلين مع كل منشور أو صورة لهم تصادفك. تلك الصلة التي نجهل كنهها أحياناً، ونجهل لماذا نحن موجودون في هذا العالم الأزرق، لكنها تفرض علينا نوعاً من الارتباط حتى لو كان عابراً أو غير مفهوم. خلال الأعوام الأخيرة، وربما منذ دخولي عالم "فايسبوك" و"تويتر"، صادفتُ فقدَ شعراء وزملاء لي في الوسط. لم يسعفني الحظ أن التقي أغلبهم. فالشتات الجغرافي الذي يحكمنا جعل من اللقاءات رهينة الصدفة.
من الحالات المؤثرة التي مرت علينا جميعاً هو الرحيل المفاجئ للكاتب والمترجم العراقي حسين الموزاني، الذي كان مقيماً في ألمانيا منذ عقود. هكذا، فجأة وبلا مقدمات، ولا منشورات تخبرنا إنهُ كان مريضاً. كان من الكتّاب العراقيين القلائل الذين أتابع تحليلاتهم للواقع العراقي والعربي في "فايسبوك". ورغم إنهُ لم تكن بيننا معرفة أصيلة سوى المتابعة الجادة لكل ما يكتب، إلا أن رحيله بهذه الطريقة المفاجئة، وحيداً أيضاً، مستسلماً لفكرة الفردانية حتى في الرحيل، كرر عندي صور الفَقد الأولى لشعراء المنفى. ومثلهُ، وربما بوقعٍ أكبر في نفسي، تلقيتُ خبر رحيل
الشاعر والروائي العراقي حميد العقابي قبل أسابيع في منفاه الدنماركي. بهتُّ لدقائق كثيرة أمام منشور صديقهِ الكاتب برهان الشاوي، وهو يخبرنا عبر صفحتهِ برحيل العقابي إثر أزمة قلبية. شارك العقابي قبل أيام قليلة فقط في سجال ونقاش فايسبوكي مهم حول الرواية العراقية، تعقيباً على إحدى "الدراسات" التي نُشرت حولها في "القدس العربي". كانت ذاكرتهُ يقظة دائماً في كل ما يخص الأدب والفن العراقي. أدركتُ هذا من أعمالهِ الغزيرة التي أرسلها لي قبل رحيلهِ بفترة. لم استوعب الخبر لحظتها وعشتُ حالة الإنكار لأيام، مثلما أفعل عادةً في كل حالة مؤلمة تواجهني.
لم يكن للصائغ، الملائكة، سبتي وبولص وغيرهم من الشعراء الذين رحلوا عنّا، حسابات في "فايسبوك". كان وداعهم تقليدياً يليق بشعراء نقرأ لهم ولا نفكر بلقائهم. لكن العقابي والموزاني ما زالوا "أصدقاء" في قائمتي! هذه الصداقة التي لم يعد في مقدوري تأكيدها أو حذفها!
لم تعد مقبرة الغرباء حكراً على دمشق، مقابر العراقيين الغرباء صارت بوسع خريطة العالم. في كل مدينة وجزيرة، سنواصل وداع قصيدة تنطفئ في عين شاعرها بعيداً من عين "الوطن".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها