السبت 2017/05/27

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

"لا فرق" أغوتا كريستوف: أنا حجر

السبت 2017/05/27
"لا فرق" أغوتا كريستوف: أنا حجر
كلّ ذلك يعود إلى... إلى التّاريخ الذي سمّمت فيه كلبي
increase حجم الخط decrease
(*) السّاطور

"تفضّل يا دكتور. نعم، هنا. نعم، أنا من هاتَفك. زوجي تعرّض لحادث. نعم، أحسبه حادثاً خطيراً. لا بل شديد الخطورة. ينبغي الصّعود إلى الطّابق. هو في غرفة نومنا. مِن هنا. اعذرني، السّرير غير مرتّب. أنت بالطّبع تتفهمّني، لقد ذهلتُ قليلاً حين رأيت كلّ هذا الدّم. أتساءل أنّى ستواتيني الشّجاعة لتنظيف كلّ هذا. أعتقد أنّي سأذهب بالأحرى للعيش في مكانٍ آخر.


"هي ذي الغرفة. تعالَ. إنّه هنا، بجانب السّرير، على البساط. ثمّة ساطور مغروس في جمجمته. هل تريد فحصه؟ أجل، افحصه. إنّه حقاً حادثٌ بليد، أليسَ كذلك؟ سقط من سريره أثناء نومه، ووقع على هذا السّاطور.

"نعم إنّ السّاطور لنا. يكون في العادة بالصّالون، قرب المدفأة، نستخدمه في قطع الأعواد الصّغيرة.

"ما الذي أتى به هنا قربَ السّرير!لا أدري. لا شكّ في أنّه أسنَد السّاطور بنفسه إلى منضدة غرفة النّوم. ربّما كان يخاف من اللّصوص. منزلنا منعزل جداً.

تقول إنّه ميّت؟ لقد فكّرتُ فوراً في أنّه ميّت. لكنّي قلت إنّ الأَوْلى أن يتأكّد طبيبٌ من ذلك.

"تريدُ إجراءَ اتّصالٍ؟ آه، نعم! بالإسعاف، أليس كذلك؟ بالشّرطة؟ لماذا الشّرطة؟ إنّه حادث. كلّ ما في الأمر أنّه سقط من السّرير على السّاطور. نعم، الأمر نادر الحدوث. لكن ثمّة العديد من الأمور التي تحدث هكذا، ببلادة.

"أوه! ربّما أنتَ تظنّ أنّي أنا من وضع السّاطور بجانب سريره، كي يقع عليه؟ لكن أنّى ليَ أن أعلم أنّه سيسقط من سريره!

"ولربّما وصل بك الظّن حدَّ الاعتقاد في أنّي دفعته، ثمَّ عدت إلى النّوم بهدوءٍ، وحيدةً في سريرنا الكبير، دون أن اسمع شخيره أو أشمَّ رائحتَه!

"عيب يا دكتور، لن تفترض أشياء مماثلة، لا يمكنك...

"صحيح، لقد نمتُ عميقاً. منذ سنواتٍ لم أنم بهذا الشّكل. لم أستيقظ حتّى الثامنة صباحاً. نظرت من النّافذة. كانت ثمّة رياحٌ. السحبُ، بيضاءَ رماديةً مستديرةً، تتراقص أمام الشّمس. كنت سعيدة، وكنت أفكّر في أنّ الإنسان لا يمكن أن يتوقّع مع السُّحب شيئاً. ربّما ستتبدّد –كانت تجري بسرعة-، وربّما تتراكم فتسقطّ على أكتافنا مطراً. سيّانٌ عندي. أحبُّ الأمطارَ كثيراً. ثمّ إنّ كلّ شيءٍ بدا ليَ رائعاً هذا الصّباح. أحسست نفسي تخفّفت، تخلّصت من ثقلٍ ظلّ سنواتٍ يـ...

"إذّاك فقط استدرتُ فرأيت الحادثَ، واتّصلتُ بك فوراً.

"أنتَ أيضاً تريد استخدام الهاتف. هو ذا الجهازُ. تنادي الإسعافَ. تريدهم أن يحملوا الجسد، أليسَ كذلك؟

"تقول إنّ الإسعاف لأجلي. لا أفهم، أنا لست مصابةً. لا شيء يوجعني، أحسّ نفسي بأفضلٍ حالٍ. الدّم الذي على قميص نومي، ليس سوى دم زوجي الذي فارَ عندما..."


(*) قطارٌ إلى الشّمال

تمثالٌ في حديقةٍ قربَ محطّة مهجورة.

يمثّلُ كلباً ورجلاً.

الكلب واقفٌ، بينما الرجل جاثٍ على ركبتَيه، وذراعاه تطوّقان عنق الكلب، ورأسه مائلٌ قليلاً.

عينا الكلب تنظران إلى السّهل الذي يمتد إلى ما لا نهاية يسارَ المحطّة، وعينا الرّجل مسمّرتان تنظران مباشرةً أمامَه، من فوق ظهر الكلب، إلى قضبان السكّة الحديد التي اجتاحتها الأعشاب، ومنذ زمنٍ طويلٍ ما عادَ يمرّ من فوقها أيّ قطارٍ. القرية التي كانت تخدمُها المحطّةُ خلت من سكّانها. ثمّة بعض سكان المدينة، من محبّي الطبيعة والعزلة، يأتون ليقيموا فيها إبّان الموسم اللّطيف، لكنّهم جميعاً يملكون سيّاراتٍ. وهناك أيضاً الشّيخ الذي يجوب الحديقة مؤكّداً أنّه نحتَ الكلبَ، وأنّه حين قبَّله –إذ كان يحبّه كثيراً- تحوّل بدوره إلى حجر.

وحينَ يُسأل كيف يعقل، والحال هذه، أن يكون حيّاً، من دمٍ ولحم، يجيبُ بأنّه ينتظر ببساطةٍ القطار إلى الشّمال.

لا أحد يملك القوّة على إخباره أنّ ليس ثمّة قطارٌ نحو الشّمال، ليس ثمّة قطارٌ إلى أيّ مكان. يعرضون عليه نقله بالسيّارة، لكنّه يهزّ رأسَه رافضاً:

- كلاّ، لن أذهب بالسيّارة، إنّهم ينتظرونني بالمحطّة.

يعرضون عليه نقله إلى المحطّة، إلى أيّ محطّة بالشّمال.

فيهزّ رأسه مجدّداً:

- كلاّ، شكراً. عليّ الذّهاب بالقطار. لقد كتبت رسائل. إلى أمّي. وإلى زوجتي أيضاً. أخبرتهما أنّي سأصل في قطار الثامنة مساءً. زوجتي تنتظرني في المحطّة صحبة الأطفال. أمّي تنتظرني أيضاً. منذ أن مات أبي وهي تنتظرني كي أحضر مراسم الدّفن. وعدتُها أن أحضر الدّفنَ. أنوي أيضاً رؤية زوجتي وأطفالي الذين... تخلّيتُ عنهم. نعم، لقد تخلّيت عنهم، كي أصيرَ فنّاناً عظيماً. مارست الرّسمَ والنّحتَ. والآنَ أرغب في العودة.

- لكن إلى أيّ تاريخ يعود كلّ ذلك: الرّسائلُ إلى أمّك وزوجتك، ودفنُ والدك..؟

- كلّ ذلك يعود إلى... إلى التّاريخ الذي سمّمت فيه كلبي حين لم يُرد تركي أرحل. كلن يتعلّق بسترتي وسروالي، ويعوي كلّما هممتُ بالصعود إلى القطار. لذا سمّمته، ودفنتُه تحتَ التمثال.

- التمثالُ نُحتَ قبل ذلك؟

- كلاّ، لقد نحتّه غداة ذلك. نحتُّ كلبي هنا، فوق قبره. وحين وصل قطار الشّمال، قبّلته لآخر مرّة، فتحجّرتُ مطوّقاً عنقَه. حتّى وهو ميّت لم يتركني أرحل.

- ومع ذلك أنت هنا، وتنتظر القطارَ إلى الشّمال.

يضحك الشّيخ:

- لستُ أحمقَ كما تظنُّ. أعلم أنّ لا وجود لي، أنا حجرٌ، متكّئ على ظهر كلبي. أعلم أيضاً أنّ القطارات ما عادت تمرّ من هنا. كما أعلم أنّ والدي قد دُفن من زمنٍ طويل، وأنّ أمّي، التي قد ماتت بدورها، لا تنتظرني في أيّ محطّةٍ، لا أحدَ ينتظرني. زوجتي تزوّجت مرّة أخرى، وأولادي كبروا. أنا مسنٌّ سيّدي، مسنٌّ أكثر ممّا تظنّ. أنا تمثالٌ، ولن أرحلَ. كلّ هذا ما هو إلاّ لعبةٌ بيني وبين كلبي، لعبة لعبناها طيلةَ سنواتٍ، لعبةٌ ربحَها هو مسبقاً، منذ اللّحظة التي عرفتُه فيها.


(*) مقطع من كتاب أغوتا كريستوف بعنوان "لا فرق"، ترجمة محمد آيت حنّا، والتي تصدر قريباً عن منشورات الجمل، فننشرها بالاتفاق مع الناشر...

نُشرت النّصوص التي تشكّل متن هذا الكتاب في العام 2005، وهي إذن آخر أعمال أغوتا كريستوف المنشورة، لكنّها امتدت طيلةَ حياتها. فقد استمرّت في كتابتها زمناً متفرّقاً، بحيث رافقت هذه النّصوص رواياتها وأعمالها، وشكّلت في غير موضع، مُعيناً لتلك الأعمال وصدى لها. ولربّما تكون هذه النّصوص أكمل ما كتبت الكاتبة فنيّاً، وأكثرها تعبيراً عمّا أرادت قوله على امتداد مسيرتها الإبداعية: لا فرق!

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها