السبت 2017/05/27

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

بيروت زمن الفدائي وهاردي وبيجار

السبت 2017/05/27
increase حجم الخط decrease
تشهد "غاليري صالح بركات" في بيروت معرضاً من نوع فريد، جمع فيه وضاح فارس مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها في لبنان بين العامين 1960 و1975، إلى جانب لوحات ومنحوتات جمعها في تلك الفترة، وتعكس هذه الأعمال صورة متعددة المرايا لمدينة صغيرة تحوّلت إلى عاصمة فنية من الطراز الرفيع، قبل أن تغرق في مستنقع حروبها الصغيرة المتواصلة.

يصعُب تصنيف هذا المعرض، كما يصعُب تصنيف صاحبه وضاح فارس. هو، كما تقول النبذة الخاصة به في الكاتالوغ، فنان عراقي سوري المولد، من بيروت، والأعمال التي يعرضها اليوم هي في الواقع مجموعة كبيرة من الصور التي التقطها بعدسته، وبعض الرسوم التي أنجزها وزين بها منشورات عديدة، إضافة الى لوحات فنانين عرضت غالبيتها في غاليري أنشأها في بيروت. تشكل هذه القطع المختلفة حوليات وضاح فارس، كما تشكل حوليات مدرسة بيروت التي جمعت في الستينات، فنانين من لبنان وسوريا والعراق، لمعوا في العاصمة اللبنانية حتى اندلاع "حرب السنتين".

عند مدخل المعرض، تطالعنا سلسلة من 18 صورة، التقطت من موقع ثابت في شارع القاهرة في منطقة الحمرا، ويظهر من خلالها المارة أمام حائط يحمل ملصقين كبيرين لفيلم "الفلسطيني الثائر". أطلق هذا الفيلم في "سينما ريفولي" في السادس من تشرين الأول-أكتوبر1969، وهو "من بطولة جيش التحرير الفلسطيني والفدائيين العرب"، وقصته هي "قصة شعب يناضل في سبيل تحرير أرضه"، كما يقول الملصق. تختزل هذه السلسة من الصور، حال لبنان في تلك الفترة. فالفيلم من انتاج شركة لبنانية سورية، حملت اسم "الشهباء"، وكان لها مقر في بيروت وآخر في دمشق، وقد عرض في سينما في وسط العاصمة اللبنانية لم يعد لها اليوم أي أثر، والمارة الذين نراهم أمام ملصق الفيلم، يعبرون شارعاً من شوارع الحمرا، أشهر الأحياء البيروتية في تلك الحقبة.

وقد عرف هذا الحي ازدهاراً كبيراً في ستينات القرن الماضي، فبات رمزا لنجاح المغامرة اللبنانية، وعرف شهرة أسطورية في مطلع السبعينات، وصمد خلال سنوات الحرب الأهلية قبل أن يذبل وينطفئ في الثمانينات. اشتهر بصالات السينما التي توالدت فيه، كما اشتهر بمقاهي الرصيف التي صنعت مجده في الماضي، وأوّلها مقهى "هورس شو" الذي افتتح العام 1959، واستقطب عدداً كبيراً من الصحافيين والسياسيين ورجال الفكر اللبنانيين والعرب. قفزت الحمرا إلى الواجهة في هذه الفترة، وباتت مُعرّفة لبنان الأولى، وعاشت مجدها الأكبر في مطلع السبعينات، بعد الهزّة الاقتصادية التي عُرفت باسم  "كارثة بنك انترا". كتب نزار قباني يومها: "شارع الحمراء جسر يصل الأرض بالسماء". وكتبت جريدة "الأنوار" في وصفه أنه "أخذ صفة الافرنجي، وكل فرنجي برنجي". في واقع الأمر، اختزلت الحمرا وجه لبنان "الفرنجي"، وعُرفت بطابعها الأوروبي الذي سحر العالم العربي.

في المقام الأول، تختزل حوليات وضاح فارس الحياة الثقافية في بيروت، وهي اشبه بكتاب مفتوح يحمل صور قامات فنية لمع نجمها في هذه المدينة. تحضر كوكبة كبيرة من الأدباء والشعراء، وعلى رأسهم أبرز وجوه مجلّتي "شعر" و"حوار". كما تحضر كوكبة أخرى من الفنانين التشكيليين الذين حضنتهم صالات العرض في لبنان، إضافة إلى وجوه من سوريا وفلسطين والعراق، ومنها منى حاطوم، نوري الراوي، سعاد العطار، شاكر حسن آل سعيد، ضياء عزاوي، اسماعيل فتاح، غياث الأخرس، وغيرهم. وإلى جانب الصور الفوتوغرافية، نرى مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية التي عُرضت في بيروت، ومنها أعمال عرضت في "غاليري كونتاكت" التي أنشأها وضاح فارس مع سيزار نمور وميراي تابت العام 1972.

كانت بيروت عاصمة الحداثة العربية، بشهادة طه حسين ومحمد عبد الوهاب، وقد حضنت أبرز التجارب الآتية من العالم العربي، كما استقبلت العديد من الأسماء العالمية. حضر الفنان السوريالي ماكس ارنست، بدعوة من بريجيت شحادة، زوجة الشاعر جورج شحادة، ورافق وضاح فارس هذا الفنان في زيارته إلى لبنان، وسجل تنقلاته من خلال سلسلة من الصور جُمعت في لوح واحد. كما سجل مرور فنان سوريالي آخر هو هنري ماسون، وصور الموسيقار الألماني كارلهاينز شتوكهاوزن، يوم جاء ليحيي حفلاً في جعيتا. ويمكن القول ان هذه الأسماء تمثل اتجاهات موغلة في الحداثة القصوى، وقلة تعرف أنها مرت في لبنان منذ بضعة عقود. وبعيداً من هذا الغلو في الحداثة، استقبل لبنان فنانين من عالم "الجاز" و"المنوعات" رافقهم وضاح فارس بعدسته، ومنهم الموسيقي شارلي مينغيس الذي شارك في مهرجانات بعلبك 1974، والمغنية الفرنسية فرنسواز هاردي، إحدى ابرز نجمات الأغنية الشبابية في ذلك الزمن، وهي اليوم فتانة من "الماضي الجميل" تقاوم المرض الذي يفتك بها ببسالة قل مثيلها بعدما شارفت على السبعين من العمر.

تعود بنا حوليات وضاح فارس إلى تلك "المقاهي التي يرتادها المثقفون، وخصوصاً مقهى هورس شو، الذي يرد ذكره كثيراً في أدبيات الستينات"، كما كتب الأردني الأردني أمجد ناصر، مستعيداً كلاماً سمعه من زميله إلياس فركوح. هي حوليات الفنون التشكيلية العربية، يوم خاضت معركة الحداثة من بيروت، وهي حوليات مجلة "شعر" ومعركة قصيدة النثر التي اختزلها أنسي الحاج في مقدمته الشهيرة. وهي كذلك حوليات الحركة المسرحية التي برزت مع فرق عديدة، منها "محترف بيروت للمسرح"، "المسرح الاختباري"، "مدرسة المسرح اللبناني البيروتية". وهي أيضاً وأيضاً حوليات "مهرجانات بعلبك الدولية" التي استقبلت أشهر فناني القرن العشرين، ومنهم عازف البيانو الأوكراني سويتسلاف ریختر الذي أُغرم بلبنان، وشارك مجاناً في حفلة إضافية قدمها لصالح "الشبيبة الموسيقية" في الكارلتون، والمغنية الأميركية الثورية جون بايز التي رفضت الغناء قبل خروج سفير بلادها من الصالة، والراقص موريس بيجار الذي شارك في آخر عروض مهرجانات بعلبك 1974، وقال هو على فراش الموت: "مندثرةٌ هي المدن حيث نعيش. أما بعلبك فباقية".

تلك هي صورة المعرض في المقام الأول، وهي صورة تحتاج إلى قراءة متأنية في المقام الثاني، ذلك أنها تتعارض بشكل صارخ مع الواقع اللبناني الذي فضحته حروبه الصغيرة المتواصلة. والقول بأن هذه الحروب كانت حروب الآخرين، لا يصحّ اليوم، فقد اتضح ان هذه الحروب ما هي إلا استمرارية لحروب أولى شهدها لبنان قبل انشائه في القرن العشرين. نحِنُّ إلى بيروت الستينات والسبعينات، ونتساءل أمام وجوه تلك الحقبة المضيئة التي كسفها حاضرنا البائس: أهي نخبة صنعت على هامشها مجد لبنان الوطن؟ وماذا بقي اليوم من هذه النخبة؟ هل تركت ميراثاً حياً؟ ومن يرثه اليوم؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها