الثلاثاء 2017/05/16

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

صلاح الدين في مراياه

الثلاثاء 2017/05/16
increase حجم الخط decrease
لعله من السخف أن أبرز من "يفجر" سجالات وردود أفعال ومواقف في الثقافة العربية، بتصريحات سمجة، هم: أدونيس عن العرب والإسلام وبيروت، وزياد الرحباني عن أمور مختلفة من فيروز الى سوريا، ويوسف زيدان عن التاريخ والآثار... وهذا الأخير أكثر احترافاً في السماجة وقول أمور جوهرها "خالِف تُعرف"، أو كما قال الزميل أحمد شوقي علي "يتقن يوسف زيدان الاستفادة من اللغط المثار حوله، بل يبدو في كثير من الأحيان وكأنه من يصنع هذا اللغط بنفسه كي يتصدر واجهة المشهد"...

مشكلة يوسف زيدان أنه يحب الضجيج. فقبل توصيفه صلاح الدين بـ"الأحقر"، قال إن "المسجد الأقصى مكانه في السعودية لا القدس"، مشيراً إلى مسجد التنعيم قرب مكة المكرمة، إلى جانب نفيه وقوع حادثة الإسراء والمعراج. وقال في تصريحات لبرنامج "ممكن" على فضائية CBC المصرية مساء 16 ديسمبر/كانون الأول 2015، "إن المسلمين استعادوا القدس من الصليبيين من أجل الكرامة فقط"... وروج لادعاءات قائلًا أنه "لا قدسَ في المسيحيّة، حيث عاش اليهود، قبل المسيحيّة بمئتي عام، على أمل المخلّص، أسموه ماشيح، وهي كلمة بالعبريّة تقابلها بالعربيّة، الممسوح بالزيت المقدّس، ما سبّب جلبةً داخل الدولة الرومانيّة؛ فقام عدد من اليهود بالتواطؤ مع الدولة الرومانية لإخبارهم بكل من يدّعي النبوة، حتى جاء الملك إليانوس، وقرر تدمير عاصمة اليهود، أورشليم، أو كما يسميّها اليهود بيت همقداش (بيت المقدس)، وأمر بمسحها عن الوجود، وكان ذلك".

وتبنى يوسف زيدان طرح الكاتب الاسرائيلي مردخاي كيدار، حيث يدّعي زيدان أنه بعد الفتح الإسلامي للقدس الشريف، ومع ظهور الثورة الزبيرية، التي حرمت بني أميّة الحج، اضطر بنو أمية لبدء تشييد صرح ديني لإضفاء صبغة دينية على حكمهم وقاموا "بتركيب" قصّة الإسراء والمعراج على القدس، حيث ذكر الإسراء في القرآن الكريم، أما المعراج "فمعرفش جابوه منين".

ليست القضية في أن يكون صلاح الدين بطلاً قومياً أو محرراً القدس، وهو ليس قديساً بالطبع. وليست القضية في أن العرب يبحثون عن "البطل الوهمي" فحسب. بل القضية في أن يوسف زيدان يتحدث في منابره كمان لو أنه في "مقاهي النميمة" كما قيل، ويستخدم لغة على وزن "أفعل" يتبجح بها، وهي لا تفتح باباً للنقاش وتفكيك الأساطير، بل تبدو لغواً سمجاً.

قد يكون جزء مما قاله زيدان صحيحاً، لكن أسلوبه في القول ينم عن ركاكة ووضاعة، واعتباطية فظة. فقد سبق لغيره أن كان أشد ضراوة في انتقاد صلاح الدينن ومر مرور الكرام من دون ضجيج، لكن ما فعله "الروائي البوكري" أنه أطلق توصيف "أحقر"، وانتهى كل ما قاله هنا...

من البديهيات أن يكون بعض التاريخ وجهة نظر وحكاية، لكن ما يفعله زيدان في جزء من أفكاره وفنعاته، أشبه بثقافة السلطة. فكما تبنت السلطة الناصرية، صلاح الدين، بطلاً قومياً في إطار شد العصب ومواجهة الغرب "والامبريالية" والاستعمار، يتبنى زيدان الموقف المعادي لصلاح الدين وينسب التطرف إليه في إطار شد عصب جمهورية عبد الفتاح السيسي ومواجهة الارهاب. لا يمكن فصل صلاح الدين عن مسار التاريخ الإسلامي والتاريخ العالمي. لا نبرر أفعاله، لكنه في الواقع جزء من سطوات شاملة في مختلف المجالات، و"الجعدنة" حوله الآن تغلب على جانب منها العصبيات بين المصرية المحلية، والعروبية القومية، والعرقية الكردية... وهذه ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها الإعلام المصري، القائد الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي. ففي نيسان/إبريل 2015 شنت صحيفة "المصري اليوم" هجمة إعلامية كبيرة بعنوان "الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي" متهمة إياه بنهب الأزهر والتصالح مع الصليبيين ضد الخليفة، والتآمر على الشام ومصر وفلسطين وتوزيعها بين أبنائه، وهدم الأهرام في مصر.

وحضر صلاح الدين على ثلاث جبهات أو أكثر. فهو  شخصية "البطل" في زمن مواجهة الحروب الصليبية، واستمرت هذه الرمزية والمثالية الفاقعة في الزمن المعاصر. إذ ينسب الى الجنرال اللنبي أنه خاطب صلاح الدين في ضريحه في دمشق وذكره بالصليبيين: "لقد عدنا يا صلاح الدين"، كأنهم يقولون أن الاستعمار حروب صليبية جديدة، بدأ فصلها الثاني مع انهيار السلطنة العثمانية... ومع تصاعد مشاعر القومية العربية في القرن العشرين، لا سيما في ظل الصراع العربي الإسرائيلي، اكتسبت بطولة صلاح الدين أهمية جديدة، فقد تحول شعاراً في الوجدان لتحرير القدس من جديد. 

ويرصد كتاب "الناصرية بمنظور نقدي" لمحمد جابر الأنصاري، تجربة الفكر الناصري، مركزاً على شخصية عبد الناصر "الذي جاء في اشتباك الأزمنة بإرث صلاح الدين ورؤى نابليون ليقع في اشكالية الموقف المتأرجح بين الإسلام والعلمانية". وأصبح عقاب (الطائر) صلاح الدين رمزاً لثورة مصر، واعتمد لاحقاً كشعار لعدد من الدول العربية الأخرى (وكان الوزير اللبناني محمد جواد خليفة "ضحية" قوله عن امين عام "حزب الله"، حسن نصرالله غداة "حرب تموز" 2006: "تصرف نصرالله ظانّاً أنه أكبر من صلاح الدين، وأكبر منّا كلّنا" ونقل التصريح موقع ويكيليكس)...

وفي خضم الصراع المذهبي والسني الشيعي في المنطقة، بدأ إبراز وجه آخر لصلاح الدين، هذا الوجه السلبي كان حاضراً من قبل في أذهان بعض الشيعة، وتجلى أكثر من صعود الانقسام وحرب سوريا. بل نُسب صلاح الدين الى "الداعشية" لأنه كان ضد الشيعة في تاريخه، وهناك الكثير من البلية في هذا المجال. ففي أحد الأخبار يسأل قيادي داعشي: لماذا لا تقاتلون اسرائيل؟ فيكون جواب التنظيم الارهابي: "الجواب عند صلاح الدين الأيوبي ونورالدين زنكي حين قاتلا الشيعة في مصر والشام قبل القدس وخاضا أكثر من 50 معركة قبل أن يصل صلاح الدين إلى القدس، وقد قيل لصلاح الدين الأيوبي: تقاتل الشيعة الرافضة، الدولة العبيدية في مصر، وتترك الروم الصليبيين يحتلون القدس؟.. فأجاب: لا أقاتل الصليبيين وظهري مكشوف للشيعة" (لا نعرف دقة هذا الكلام لكنه ممكن وغير مستبعد)... وعلينا أن نلفت إلى ما قاله نصرالله، في ذكرى يوم الجريح المقاوم 2 أيار 2017:
"أود أن أقول أمراً اليوم، خلال 6 إلى 7 سنوات لم أقدّم خطاباً تعبوياً، أنا أقوم بخطاب تحليلي، توصيفي، نحن كنا نقاتل إسرائيل منذ العام 1982 حتى 2000 كان لدينا يومياً خطاب تعبوي، نحن غير محتاجين في سوريا لخطاب تعبوي لأن البصيرة والوعي والقناعة وسلامة وصوابية الخيارات عند مجتمعنا وشبابنا ومقاتلينا وعائلاتهم واضحة إلى حد لا تحتاج إلى خطاب تعبوي".

ليس يوسف زيدان أول من تحدث عن مشكلة صلاح الدين مع الشيعة. ففي نهاية السبعينيات، أصدر الشيخ محمد جواد مغنية كتابه "الشيعة والحاكمون" عن صلاح الدين. فـ"بدلاً من أن يكافىء (الخليفة الفاطمي الأخير) العاضد على إحسانه، أخذ يكيد له ويضايقه وانتزع منه السلطة وصادر جميع أمواله حتى الفرس الذي كان يركبه". وأخذ مغنية بروايات سائدة: "حبس بقايا العلويين في مصر، وفرّق بين الرجال والنساء حتى لا يتناسلوا"، وجوهر ما يريد قوله مغنية أنه: "لولا صلاح الدين لأصبحت مصر والشام والحجاز بلاداً شيعية الآن".

وفي منتصف التسعينيات أصدر المؤرخ حسن الأمين (نجل العلامة حسن الأمين) كتاب "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"(دار الجديد) جاء على غلافه "هذه الحقائق نرجو أن تتقبلها الصدور بصبر، لأن التاريخ الصحيح لا يرحم، ولأننا نؤمن بحقيقة ترى أن من أفظع الإجرام أن لا نعلنها مهما كان في إعلانها من صدمة لما تواضع الناس على الأخذ به على أنه من الحق وهو من صميم الباطل... كلمات قالها السيد حسن الأمين ومضى، وعنى بها كل تاريخنا. فكم من أبطال حقيقيين وبطولاتهم دفنوا بين طياته، ونبش مؤرخو السلطان عن جيف جعلوا منها أسطورة وصدقوها. إن تاريخنا بحاجة الى إعادة سبر وصياغة كي لا يضيع وسط أوهام مزعومة. 

ومن منطلق مذهبي، اتهم الأمين، صلاح الدين، بأنه مسبب مسبب نكبات وكبائر، وأثار كتابه سجالات كثيرة. فهو يرى أنّ هناك وجهين للحقيقة التاريخيّة وحتّى لصانعيها. يشرّح الأمين هنا دوافع صلاح الدين لعقد السلام مع الصليبيّين بعد خروجه من معركة حطّين منتصراً. يقول الأمين إنّ صلاح الدين الأيّوبي "لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة، حتّى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدّقه، لولا أنّه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة، في ما سجّله مؤرّخو تلك الحقبة، المؤرّخون الذين خدّرت عقولهم روائع استرداد القدس، فذهلوا عمّا بعده، لم تتخدّر أقلامهم فسجّلوا الحقائق كما هـي، وظلّ تخدير العقول متواصلاً من جيل إلى جيل، تتعامى حتّى عمّا هـو كالشمس الطالعة، حصل بعد حطين أنّ صلاح الدين الأيّوبي آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد التمرّد، فأسرع يطلب إلى الإفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام...
ولكي يتوصّل صلاح الدين إلى إحلال السلام وإنهاء حالة الحرب مع الصليبيين، رضخ بصورة مذهلة وغريبة إلى كلّ الشروط التي اشترطوها عليه أثناء المفاوضات، ومنها: التنازل للصليبيين عن الكثير من المدن التي كان صلاح الدين قد استردها منهم بالحرب.. حيفا - يافا - قيسارية - نصف اللد، ونصف الرملة - عكا - صور - وسوى ذلك، حتّى صارت لهم فلسطين إلاّ القليل"...

الجانب الأبرز الذي يؤحذ على صلاح الدين، نقل أجزاء من حجارة الأهرامات لبناء قلعة. يقول المؤرخ تقي الدين المقريزي، في كتابه "خطط المقريزي" أن هناك عدداً كبيراً من الأهرام في منطقة الجيزة، هدمها صلاح الدين الأيوبي بأكملها، وأخذ حجارتها ليبني بها قلعته المعروفة باسمه، تحت سفح جبل المقطم، والسور المحيط بالقاهرة، مشيراً إلى أنه لم يتبق من هذه الأهرام سوى أعظَمها، والمعروفة حالياً باسم هرم خوفو، وهرم خفرع، وهرم منقرع، وهي التي لم يقو الزمن ولا صلاح الدين على تدميرها"...

أحسب أن الزمن المعاصر أعطى للآثار قيمتها المعنوية والمادية. فمن يقرأ تعاطي محمد علي باشا مع الآثار يدرك أن مشكلة الآثار متكررة مع الكثير من حكام مصر. فقد أهدى محمد علي بعض المسلات للأوروبيين، كما لو أنه يهدي خردة وحجارة غير صالحة للاستعمال أو مجرد أوثان. وأكثر من ذلك، في إحدى الصور القديمة، نرى مواطناً يبيع في بسطته مومياء فرعونية. كانت استباحة الآثار على قدم وساق، وما فعله صلاح الدين جزء من تخلف شامل... وحتى في حرقه الكتب، الفاطمية وغيرها، فهذا جزء من ثقافة الاستبداد، ولا تقتصر على الأيوبي، هي ثقافة عامة ربما تقلصت قليلاً في النصف الثاني من القرن العشرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها