الأحد 2017/05/14

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

"نحبّك هادي".. حياة في غير مكانها

الأحد 2017/05/14
increase حجم الخط decrease
يصلح "نحبَّك هادي" للتونسي محمد بن عطية أن يكون مفتتحًا لسلسلة سينمائية تستقصي حياة بطلها في مراحل عمرية مختلفة، ولا يعني ذلك أن الفيلم غير مكتمل بذاته، بل ربما يمكن اعتباره نوعًا من المديح لأولى تجارب المخرج في إنجاز الأفلام الروائية الطويلة. "نحبَّك هادي" ينطلق من حالة امتثال كامل من جانب بطله هادي (مجد مستورة) لسلطة أمومية تهندس مستقبل "الولد الصغير"، ويعبر من خلال متسلسلة من الأحداث الصغيرة والعادية للغاية إلى حالة تمرُّد مُعلَن من جانب ذلك البطل الهادئ، ثم يتركنا الفيلم بعد ساعة ونصف تقريبًا أمام حالة من التساؤل حول الخطوة التالية في مسيرة هادي، بعد أن شرع أمامنا وعلى مدى النصف الثاني من الفيلم في نزع القشرة تلو الأخرى عن شخصيته.


حكاية الفيلم كما تخبرنا نشرته الدعائية تدور حول بطله، هادي، وهو"شاب عادي، قليل الكلام، لا ينتظر من الحياة شيئاً يُذكر، وغير مبالٍ بما يحيط به. يترك لأمّه المتسلطة(صباح بوزويطة) شؤون تنظيم زواجه من خديجة(أمنية بن مسعود). قبل الزواج بيومين، يتعرّف هادي في المهدية على ريم (ريم بن مسعود)؛ راقصة شابة في نزل يكاد يكون مهجوراً من السياح. تشدّه حرّيتها ولا مبالاتها، ليجد نفسه مأخوذاً بهذا العشق الناشئ". حكاية بسيطة ولا تستدعي بالضرورة تعقيدًا في طرحها السينمائي، غير أن الإنجاز المتحقق في فيلم بن عطية كبير ويمكن ملاحظته على مستويين، أولهما امتلاك الشريط لأسلوب يخصّه يجاري هدوء شخصيته الرئيسة وتعاطيها اللامبالي مع ما يحدث من حولها، وثانيهما انفتاحه على التعاطي مع مسائل شخصياته الذاتية وصراعاتها الداخلية في بيئتها دون الانجرار إلى استخلاص أحكام مُعمّمة أو فرض إسقاطات مباشرة على الواقع السياسي والمجتمعي في بلد لا يزال يعاني هو الآخر آثار الانسلاخ من ديكتاتورية زين العابدين بن علي. من السهل تأويل الفيلم في اتجاه ارتباطه بالتغيّر المجتمعي المائر في المنطقة العربية، خصوصًا في البلاد التي شهدت انتفاضات شعبية مثل مصر وتونس على سبيل المثال، ولكن الشكل النهائي الذي خرج عليه الفيلم يجعل من هذه الرؤية حصرياً إنقاصاً لثراء سينمائي يختزنه "نحبك هادي" بداخل حكايته البسيطة والزاخرة بتفاصيل غير معلنة وشخصيات متوارية، هي بمثابة أفلام أخرى تحتاج الشروع في تنفيذها أو على الأقل التفكير بشأنها.


تكمن قيمة "نحبك هادي" الأساسية في وضوح الرؤية لدى مخرجه، الذي امتلك أدواته جيداً لتحقيق فيلم تجنّب الوقوع في أخطاء التجربة الأولى وابتعد عن حشوه بكل ما يعتمل بداخله من أفكار وأسئلة معلّقة واستيهامات وإجابات. بداية من العنوان، يمكن الدخول إلى الطريقة التي سيسيّر بها بن عطية فيلمه، فالهدوء سمة مسيطرة على الفيلم طوال زمنه، حتى في لحظات ثورة بطله، ومع تطوّر الفيلم يبدو واضحاً أسباب اهتمام مخرجين مثل الأخوين جان ولوك داردان بإنتاج الفيلم الأول لمخرج تونسي. فإلى جانب الهدوء الذي يميّز أفلام الثنائي البلجيكي، يحضر الجانب الاجتماعي للحكاية بقوة في الفيلم في مشاهد متعددة الكادرات والنبرات يغلب عليها الصمت أو الحديث الموجز، في أثناء بحث هادي عن زبائن جدد لشركة السيارات التي يعمل بها في مصانع وشركات مدينة المهدية أو في بيان ندرة أعداد السياح في المدينة الساحلية، ويمثّل ذلك المشهد المصوّر في لقطة واحدة لمصنع شبه خالٍ إلا من كلبين يحرسانه -أو ربما يقيمان في فنائه الأمامي- يخاف منهما هادي ويعود سريعًا إلى سيارته بعدما ضرب عصفورين بحجر واحد، حيث يُشهدنا على لامبالاة هادي في وظيفته التي لا يحبّها وكذلك يؤشر على تردّي الحالة الاقتصادية في قطاعي التجارة والصناعة بعد خمس سنوات من الثورة.


بمثل هذه المقاربات، يتم تمرير النقد الاجتماعي والتوثيق والتأشير إلى حال البلد في هدوء ودون مباشرة، في خلفية الأحداث أو في عبور سريع وبكادرات موحية، ودائماً يحضر مجد مستورة بكامل لياقته التمثيلية ليتكيّف مع متطلبات المشهد. مباراة تمثيلية أخرى يخوضها مستورة في الثلث الأخير من الفيلم، بعدما تتطوّر علاقته مع ريم ويقرّر الزواج منها قبل يوم واحد من موعد زواجه العروس التي اختارتها له والدته. وهنا أيضاً يتكفّل الهدوء الإخراجي بكل شيء، فلقاءات هادي وخديجة تظل كما هي في كادرات مظلمة وثابتة لا تتغيّر داخل سيارة هادي بجوار منزل الفتاة الساعية للهروب من سجنها المنزلي ومواعيد الخروج، وفي المقابل تتنوّع أحجام وأطوال اللقطات التي تجمع هادي بريم على الشاطىء أو على السرير أو في الشارع. وما بين اختيار السير وراء حلمه والعيش مع المرأة التي يحبّها أو العودة إلى الخطة المحددة سلفاً لحياته، ينشأ صراع درامي داخل هادي لن يجازف الفيلم بتقديم إجابة جاهزة عن مآلاته.

في مشهد مبكر من الفيلم، نتابع زيارة أسرة هادي لمنزل خديجة، ويبدو واضحًا للمشاهدين سيطرة هذه الأم على كل كبيرة وصغيرة في ما يخصّ ابنها. يجلس هادي في صالون منزل العروس، رجل وحيد لا يدري من أمره شيئًا وسط حشد صغير من النساء والأطفال، وحين يعود إلى منزلهم يسأل أمه مستنكرًا: "لماذا قلتِ لهم أنني أرسم بورتريهات؟ أنا لا أرسمها أصلاً"، لتردّ الأم بقولها: "حسناً، لأ أعرف كيف يكون الرسم" وتستطرد: "ثم إنك تستطيع أن ترسم لها (زوجته المستقبلية) بورتريهاً على أية حال". في هذا المشهد الصغير جوهر الفيلم وأحد مفاتيحه، فإذا كان بن عطية لم يعش في كل الدول العربية من قبل، فإنه استطاع بذلك المشهد وضع كثير من مشاهدي فيلمه وجهاً لوجه أمام سؤال كبير يحوم حول حياتهم في ظل الضغط المجتمعي ومتطلبات الجدارة بينما يشاهدون ذلك الشاب العشريني عاجزاً عن ممارسة حقه في الفردية وإعلان اختياره، بما هو إعلان وجود في النهاية.

فردانية هادي معطّلة طوال الوقت، لأن الأمر لا يقف عند حدود الأم التي تفكّر بدلاً منه، بل يتعدّاه إلى أخيه الأكبر (حكيم بومسعودي) الذي يجهّز وظيفة جديدة له، ورئيسه في العمل الذي يجبره على طريقة معينة للعمل، وأصدقاء الطفولة الفرحين بزواجه أخيراً، ليجد نفسه في لحظة ما وحيداً في أرض فضاء شاسعة تؤطرها الإضاءات البعيدة وتعبرها الأطياف إلى ما لا يعرفه. إنها حياة في غير مكانها، يجد صاحبها الفرصة لتغييرها تماماً حين يلتقي بامرأة مجرّبة "يحب وجوده بالقرب منها"، و في لحظة ثورة يفعل ذلك من دون تفكير في تبعات اختياره، الاختيار الذي يحتاج فيلماً آخر لاستقصاء مداه ونتائجه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها