السبت 2017/05/13

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

"صهيونية" معروف الرصافي واتهامات أخرى

السبت 2017/05/13
"صهيونية" معروف الرصافي واتهامات أخرى
increase حجم الخط decrease
لفتني اندفاع بعض كتّاب "الفايسبوك" في تناول الكاتب والشاعر العراقي، معروف الرصافي واتهامه بـ"الصهيونية". لم أكن مهتماً بهذا الموضوع من قبل، لكن بعد التعليقات الفايسبوكية حول التهمة الفاقعة، عدتُ لأبحث في حيثيات القضية وأسباب الاتهام وفحواه لأنه يتجاوز الخطوط الحمر، فتبين لي أنه في العام 1920، نظّمت الحركة الصهيونية احتفالاً كبيراً في افتتاح الجامعة العبرية في القدس، حضره المندوب السّامي البريطانيّ، هربرت صموئيل، رئيس بلدية القدس راغب النشاشيبي ومعروف الرصافي. ألقى الأخير في تلك المناسبة قصيدة احتفائية مطوّلة، حيّا فيها المستشرق ذا الأصول العراقية إبراهام شالوم يهودا، ومطلعها:
خطاب يهودا قد دعانا إلى الفكْرِ/ وذكّرنا ما نحن فيه على ذِكْرِ
ومجَّد ما للعُرب في الغرب من يد/ وما لبني العباس في الشرق من فخرِ
لدى محفلٍ في القدس بالقَوْمِ حافلٌ/ تبوّأه هِرْبر صموئيل في الصَّدْرِ

ونفى الرصافي في هذه القصيدة أن يكون العرب معادين لليهود، وتجلّى ذلك في قوله:

ولسنا كما قال الأُلى يتهموننا / نُعادي بني إسرال في السر والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهم/ يمت إسماعيل قدما بنو فهر
وإني أرى العُربيَّ للعرب ينتمي/ قريباً من العِبريّ يُنمى إلى العِبر

وكانت حكومة الانتداب قد أرسلت قصيدة الرّصافي إلى الصّحف العربيّة في فلسطين، طالبة من محرّريها نشرها؛ لكنّ محرّر جريدة "الكرمل" الحيفاويّة، نجيب نصّار، الّذي استلم نسخة منها، أبى أن ينشرها إلّا بِرّدٍّ من المحامي والشاعر وديع البستاني؛ وجاء ردّه في أبيات ساخرة تقول:

خطابُ يهودا أم عُجابٌ من السحرِ/ وقول الرصافي أم كِذابٌ من الشعرِ
ببغدادَ يا معروفُ، بالأرضِ، بالسما/ بربّك، بالإسلام، بالشفع والوترِ
قريضك من درّ الكلام فرائد/ وأنت ببحر الشعر أعلمُ بالدر
ولكن هذا البحرَ بحرُ سياسةٍ/ إذا مدّ فيه الحقُ آذن بالجَزر
عهدناك عبّاساً بوجه أعزّة/ فكيف لقيت الذلَّ بالعزّ والبشر

وقبل مدة، شنت حملة "فايسبوك" من أجل إزالة تمثال الرصافي بسبب قصيدته... من دون أن ننسى عشرات المقالات التي تمجّد البستاني "الماروني العروبي" وتشتم الرصافي...

ليس غريباً أن يصف الرصافي، العرب واليهود بأبناء العم، فالشيخ رشيد رضا لم يتقاعس عن مناصرة الضابط الفرنسي ألفرد درايفوس، الذي اتُهم بالخيانة ظلماً من قبل سلطات بلاده، وسط حملة إعلامية عنصرية شنتها الصحافة الفرنسية في حينه، مُشهِّرة، ليس بدرايفوس وحده، وإنما باليهود عامة، وهناك الكثير من الوقائع التي تقارب بين اليهود والعرب أو بين يهود عرب... المهم القول أنه حين نتهم شخصاً عربياً بالصهيونية في زمن الصراع العربي الاسرائيلي، فالأمر يحمل الكثير التكهنات وحتى الهلع والفوبيا. أن يكون العربي صهيونياً، ففي ذلك تخط للخط الأحمر بأشواط، وأن يكون الرصافي ارتكب هفوة ومدح صهيونياً العام 1920، وفي مرحلة كان العالم العربي يعيش مخاضاً عسيراً، بين الخلاص من الانتداب العثماني والثورة الفاشلة وسايكس بيكو ووعد بفلور والانتداب الغربي الجديد، وبين الانتهاء من الخلافة والدخول في موجة الحداثة والليبرالية من دون أن ننسى أن الكثير من القادة السياسيين كانوا يتواصلون مع اليهود في فلسطين. 

لا يمكننا محاكمة الرصافي الآن، فعلينا أن نبين مكامن الأمور، وحيثيات ما جرى للتاريخ والذاكرة، فما قبل حرب 1948 ليس كما بعدها... ومهما كانت التأويلات والاتهامات، ما يمكن قوله أن شخصية الرصافي مثيرة للجدل... كتب الروائي العراقي سلام عبود: "من يتأمل حياة الرصافي يجد أن تناقضات شخصيته أبعد مدى من انقسامها بين حياة الليل والنهار. فهذا الانقسام يشمل حتى مظهره الخارجي. فتارة نراه في لباس عصري أوروبي، وأخرى في زيّ عراقي شعبي تقليدي، ولم يجد في هذا الجمع بين المتناقضات ما يعيب. فقد اجتمعت فيه كاجتماع الليل والنهار، وكاجتماع الرغبة في الخمرة والميسر وكتابة السيرة المحمدية. فهو وحدة نموذجية لمجموعة من التناقضات السلوكية والفكرية. ينتمي الرصافي بحكم وظيفته وموقعه الفكري والسياسي الى طبقة سياسية عليا، لكنه كان نصيرا للضعفاء".

ويقول الصحافي علي حسين: "كان الرصافي مكتوياً بنار أسئلة حارقة تؤرق ذهنه وكان مدركاً أنه يواجه واقعاً مضطرباً انحاز فيه منذ البداية للمسحوقين والمعدمين وذهب به هذا الانحياز إلى  ان يجاهر علنا في مجلس النواب  عام 1937 حين قدم عدد من النواب مشروعا لقانون الاصلاح الزراعي اعتبره آخرون قريباً من مبادئ وسياسات الدول الشيوعية: "إني شيوعي لكن شيوعيتي إسلامية، الشيوعية التي جاء بها محمد بن عبد الله"ص" لأنها وردت في القرآن في قوله تعالى (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)... فقد كان مؤمناً بالدولة العثمانية الحديثة التي ينضوي تحت رايتها العراقيون من مختلف القوميات، وتلك وجهة نظر كلفته الكثير، بما فيها موقفه من العروبيين الذين أيدوا فيصل وثورته".

ومع صدور كتابه "الشخصية المحمدية" بعد عقود على كتابته، زادت التكهنات حول شخصية الرصافي وهويته، لمجرد أن الكتاب يشرّح ألغاز الدين الإسلامي، مرة يتهم بالطائفية وطوراً بالصهيونية وتارة بالماسونية، ومرات يقال إن كتابه "أخطر من آيات شيطانية لسلمان رشدي"، أو يشكك بعضهم في أن يكون الكتاب للرصافي نفسه. وعلى هذا لا يمكن إعدام الرصافي معنوياً لمجرد أنه قدم قصيدة سخيفة في مناسبة من المناسبات، ولا يمكن تقزيم الرصافي في قصيدة فهو شاعر وكاتب موسوعي وسجالي مثير للجدل، فهو إن مدح صهيونياً في قصيدة، في السنوات اللاحقة كتب أناشيد المدارس الفلسطينية، عاش الرصافي فترة من حياته في القدس، وكان جزءاً من فضائها الثقافي، المتفتح على بزوغ القرن العشرين الجديد آنذاك، وما حمله "قرن العلم والتقدم" هذا من آمال لمثقفي فلسطين، الذين فجعوا لاحقاً بالمآسي وضياع وطنهم.

الطامة الكبرى ليست في أن الرصافي مدح صهونياً بل في ثقافة المديح بحد ذاتها، وثقافة المديح التي كانت تحظى باهتمام كبير في التراث الشعري وسرعان ما بدأت بالتلاشي، وإظهار بعد أخبارها يرشدنا الى تفاهتها والتباسها. يرى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي أن من المفارقات المضحكة أن نرى الأخطل، الشاعر النصراني المعروف يمدح معاوية فيقول:
وطدتَ لنا دينَ النبيِّ محمدٍ       بحلمكَ إذْ هرّتْ سفاهاً كلابُها

ويعلّق على ذلك بالقول:
"ولا ينتهي ضحكي من هذا البيت العجيب، حيث أجد فيه شاعراً مسيحياً يمدح معاوية المسلم لأنه وطّد له دين النبي محمد. ولستُ أشك في أن الأخطل استلم جزاء هذا الشعر مبلغاً كبيراً من المال . فهو إذن لا يبالي أن ينتصر دين محمد أو دين المسيح ما دام المال موفوراً"، من يتأمل علاقة المتنبي بالمديح يدرك بؤس هذا النمط من الشعر، لقد جرب أحمد فارس الشدياق أن يكون المديح من وسائله في التواصل مع اوروبا، وتعرض لخيبة كبيرة كتب عنها المغربي عبد الفتاح كيليطو.

وليست هذه المرة الأولى التي تتحول فيها قصائد الرصافي قضية إشكالية سجالية، فسبق أن كشف الباحث العراقي رشيد الخيون في مقال له عن قيام "دار العودة" في بيروت بحذف قصيدتين من ديوان الرصافي، إحداهما في رثاء الوجيه العراقي اليهودي ساسون حسقيل الذي عمل وزيراً للمالية العراقية 1920-1925 في حكومة ياسين الهاشمي. أما القصيدة الثانية فكان الرصافي قد كتبتها في اليهودي العراقي الآخر، مناحيم دانيال، الذي شيّد على حسابه الخاص بناية الميتم الإسلامي العام 1928 كما يوضح رشيد خيون، الذي نقل جزءاً من قصيدة الرصافي في رثاء الوزير ساسون حيث قال الرصافي فيها:

لقد كان في الأوطان يـرأب صدعها
فيسعى إلـى الإصــلاح فيها ويـدأب
فأصـغــى لشكواها وزيــراً ونائــــباً
وعالجهـــا منه الطَّبيـــب المجــــرّب
وأبعد مرمـــى حبهـــا في شبـــابه
وجاهد في إسعادهــا وهو أشــــيب
لئن كان، يا ساسون، غيبك الـرَّدى
لذكـــرِاك بالعـــليــــاء لا تتغيـب

وانتقد رشيد الخيون ما قامت به الدار التي جاء في مقدمتها للديوان أنها جمعت فيه كل قصائد الرصافي بعدما "كلفت شاعرين كبيرين" بمراجعة وتصحيح القصائد، حيث يعلق خيون على ذلك قائلاً: بأي حق تُرفع أكثر مِن قصيدة مِن قصائد الرَّصافي...


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها