الخميس 2017/04/27

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

حالِبو ضرع الثورة

الخميس 2017/04/27
حالِبو ضرع الثورة
نحن في 2017.. والبعض يصر على العيش في 2011
increase حجم الخط decrease
نحن في العام 2017. أنا كاتب خرج من السجن، منذ أسابيع، بعد سنة من العزلة، يحاول اللحاق بما فاته خلال العام الذي قضاه في طرة، وإستعادة إيقاع اللحظة والحياة في السجن الكبير بعد شهور في السجن الصغيرة. تصلني رسالة الكترونية بعنوان "بيان صحافي- قاموس الثورة". النص مكتوب بالعربية والانكليزية، وبالتالي فنحن أمام مشروع فني يتعلق بالفن المعاصر، الذي أصبحت الإنكليزية والعربية لغتيه الأساسيتين بعد عقود من الفرنسية والعربية. أقول لنفسي لا داعي للتوقف عند الفرعيات. نص الرسالة- البيان الصحافي، أنه يزف لي ولنا جميعاً هذه البشري السارة حول إطلاق المطبوعة الإلكترونية - موقع على النت يعني- التي تحمل اسم قاموس الثورة. وهو ثمرة جهد الفنانة المصرية والكاتبة أميرة حنفي.


طيف من الحنين والنوستالجيا يرسم ابتسامة صفراء على وجهي. ياه.. الزمن الجميل، الثورة النظيفة، عندما كانوا يكنسون الرصيف، ثم يقفون لجمع الجنيهات من العربات المارة بحجة طلاء الرصيف وتنظيف البلد وبناء مصر الحلوة. مشروع قاموس الثورة أيضاً نُفّذ بالطريقة ذاتها، فجمع التبرعات من محبي الثورة وقاموسها ومصر النظيفة عبر موقع كيك استارتر.

تفتح الرابط المرفق مع البيان الصحافي، لتجد تصميماً رشيقاً، يضم مجموعة من العناوين والتعريفات، مرفقة بنص يفترض أنه مكتوب باللهجة العامية المصرية أو هكذا تدّعي الكاتبة. وبحسب الشرح المرفق مع البيان الصحافي، فالكاتبة الفنانة تحدثت وفريقها مع قرابة 200 شخص في ست محافظات مختلفة في مصر (القاهرة والإسكندرية والمنصورة وجنوب سيناء والسويس وأسوان) في العام 2014. واختار المشاركون في المشروع بطاقات من صندوق، تحتوي كلمات استُخدمت بشكل متكرر في الأحاديث في الشارع خلال الفترة من 2011 إلى 2013، وتحدث المشاركون في المشروع عما عنته لهم تلك الكلمات، مَن كان يستخدمها وكيف كان يستخدمها، وكيف تغيرت معاني تلك الكلمات بعد الثورة. وعلى أساس هذا البحث اللابحثي، حررت الكاتبة الفنانة الأحاديث والثرثرات التي جمعتها من عيّنتها، وأطلقت هذا القاموس، الذي عجزت عن فهم الغرض منه.

مرة أخرى نحن في العام 2017. لكن البعض يصر على أن يعيش في 2011، ربما لأنه لم يحيا لحظة 2011. كان هذا الأمر مفهوماً ومقبولاً، قبل ثلاث سنوات أو أربع. وقتها، كانت الثورة المصرية موضوعاً أكثر جاذبية من صور كيم كاردشيان، وبالتالي كان الاهتمام الإعلامي والفني متزايداً. وكانت مشاريع مثل مشروع أميرة حنفي، تتكاثر كالفطر، بلا توقف، إذ تتغذى على القوة الدافعة العظيمة التي أطلقتها الثورة، من دون أن تضيف لها أي شيء أو حتى تستغل تلك القوة الدافعة لإنتاج فن ثوري مماثل أو لأن يراجع الفنانون مواقفهم. لكن أميرة حنفي فضلت على ما يبدو حياة الفطر والاستمرار في حلب ضرع الثورة حتى القطرة الأخيرة.

بحسب البيان الصحافي، حصل مشروع قاموس الثورة على دعم "الصندوق العربي للثقافة والفنون - آفاق"، فيما بُني الموقع بدعم من "رهيزومي". وتلقى المشروع في مارس/آذار 2017، جائزة "أرتراكير" لتغيير السرد.

أما بخصوص الثورة، التي وضعت أميرة حنفي قاموسها، فتقول عنها: "الثورة كانت تحركاً من الناس وأردت أن أكتب قصة الصورة بلُغة الناس الذين شاركوا فيها، أو الذين تأثروا بها. ولهذا اخترت أن أتحدث إلى مصريين عاديين، وأن أطلب منهم أن يتحدثوا بأصواتهم". ولم تغير حنفي كلمات أي مشارك في المشروع، فقط حررت الكلام ورتّبته لخلق إحساس بحوار وطني من خلال تعارض وجهات نظر المشاركين. مثل أي ديكتاتور صغير يحيي قطاعاً من الكتّاب والفنانين المصريين. يتكاسلون عن كشف وجوههم أو تقديم تجربتهم ورؤيتهم الذاتية للحدث ويفضلون أن يتحدثوا بخطاب السلطة التي يحاربونها. مثلما يتحدث القائد السياسي بأنه يمثل الشعب ويتحدث بصوته، تدّعي أميرة حنفي بأنها وصلت إلى المصريين العاديين، وتؤكد في البيان وفي أكثر من حوار حول المشروع،  بأنها وفريقها تحدثت مع مصريين عاديين، لكنها لا توضح مَن هم المصريون العاديون، وكيف يختلفون عن المصريين السوبر، أو تحت العاديين؟

وحدها أميرة تعرفهم ووصلت إليهم، مثلما يصل القائد السياسي إلى المصريين البسطاء والمصريين الحقوقيين. مثل السياسي، يتحدث الفنان بأن المشروع الذي حصل بسببه على الجوائز والدعم ليس مشروعه بل مشروع المصريين ووجهات نظرهم. فهو كالسياسي يتحدث بصوت المصري العادي، ليقدم رؤية المصري العادي للثورة. بالتالي يصبح أي نقد لمشروع أميرة حنفي أو لغته السطحية وأفكاره النمطية، بل الأقل من النمطية، نقداً لصوت المصري العادي، وتعالياً على سردية الشعب الذي تدّعي أميرة تمثيله مثلما يدّعي السياسي تمثيله.

أما الناتج النهائي لكل هذا الدعم الذي يتم شفطه، ولكل هذه المقدمات العظيمة التي تتحفنا بها أميرة حول المصري العادي، فهو ثرثرة بلا طعم ولا جمال ولا معنى. أقرأ مثلاً ما كتبته تحت كلمة "رابعة" : "روحت دورت على مين رابعة، فطلعت رابعة ست رهيبة بقى، وفي بغداد. عاملة زي هيباتيا وكده يعني، بس في النسخة الإسلامية منها...
كانت رابعة العدوية، يعني زي ما بتقول في كتب التاريخ، إنها اتولدت البنت الرابعة لأسرتها فسماها أبوها رابعة. وليها قصة قد تكون حقيقة أو قد تكون غير حقيقية… يعني فيها كثير من الأسطورة".

الثرثرة تستمر على طول المشروع وعرضه، مصحوبة بتسجيلات بأصوات المصريين العاديين الذين حتى لم تتكرم أميرة حنفي بمنحهم أسماء. تستمع مثلاً إلى صوت سيدة تتحدث عن رؤيتها لحقوق الإنسان، لكن أميرة لا تقول لنا من هي هذه السيدة وما اسمها. ففي مثل هذه المشاريع، حيث تتحول الثورة إلى بقرة يُحلب ضرعها على هيئة تمويل ودعم، لا مساحة لأي اسم سوى اسم الفنان.

لا ننظر في رزق أحد، نتمنى الخير للجميع. لكن تكاثر مثل هذه الخطابات يحول الثورة يوماً بعد يوم إلى بقرة جافة الضرع. صنم يُعبد ويُقدس، بينما هو يستحق التهشيم. سيعيد الفن والكتابة تحويل الهزائم التي لحقت بالثورة إلى مرثيات، لتتكرر مرة أخرى تجربة جيل الستينات. جيل كامل من المبدعين في المجالات كافة، يجترّ هزائمه ويعيد مضغها مرة بعد آخرى، كمن يمضغ القات، بلا يأس وبلا أمل، ومن دون أن يبارح مكانه، من دون أن يمتلك شجاعة النظر في المرآة أو نقد الذات. مع استمرار الوهم الأبدي بأنه ممثل لصوت الشعب وضمير الأمة وحامل شعلة التعبير عن المهمشين والمنسيين، وأن هناك أشراراً في مكان ما، لا يحددهم أبداً، سرقوا منه حلمه الذي يبكي عليه، ومع كل نوبة بكاء يهرول نحو ضرع أمه ثورته وصنمه. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها