الثلاثاء 2017/04/25

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

السجيني في مئويته.. هل تنحت أصابع الماضي "مصر المستقبل"؟

الثلاثاء 2017/04/25
السجيني في مئويته.. هل تنحت أصابع الماضي "مصر المستقبل"؟
منحوتات السجيني، تشتبك مع المستقبل، الذي هو "الحاضر"
increase حجم الخط decrease
للنحت قدرته الخاصة على تثبيت اللحظة نسبيًّا في وضعية ما، لكنها تبقى بقدر براعة الفنان قابلة للتحرر، والتحرك، بل والتفجر، في تفاعلها الحي مع الرائي، ومع الفراغ من حولها. الزمان، حال تجمده هكذا، يجوز اعتباره مكانًا. هذا المكان، في انصهاره وسيولته بفعل طقوس ومناخات مستجدة، يمكن أن يخلق أزمنة مغايرة، قد تنتمي إلى الحقيقة، أو إلى الخيال.

"تحولات المكان والزمان"، هو العنوان الافتراضي، الذي يكاد يفرض نفسه فرضًا، على الاحتفالية بمئوية ولادة التشكيلي والنحات جمال السجيني (*)، في مركز محمود مختار الثقافي في القاهرة (إبريل - مايو 2017)، إذ تتجاور في قاعات العرض المتعددة، في متحف ومركز محمود مختار الثقافي، وقاعة الزمالك للفن، أعمال السجيني النحتية الشهيرة، وهي في جملتها منحوتات ذات وعي كبير بالمكان، من حيث خصوصيته وسعة دلالاته وتعدد مجالاته، وذات وعي كبير أيضًا بالزمان، بتجلياته الحَدَثية، وإحداثياته التاريخية.

منحوتات السجيني، بهذا الوعي المزدوج، وإن كانت وليدة حاضرها المكاني والزماني، تشتبك مع المستقبل، الذي هو "الحاضر" في 2017، الأمر الذي يجعل معرض مئويته ليس "استعاديًّا"، بل يكاد يبدو معرضًا جديدًا، ومشغلًا لصناعة التأويلات، وقاعدة لإطلاق الأسئلة.
طبيعة أعمال السجيني النحتية، جعلت احتفالية مئويته تنطوي على تحديات عدة، ربما فاقت تصورات "قطاع الفنون التشكيلية" في مصر، الذي لخّص رئيسه الفنان خالد سرور هدف الاحتفالية بإتاحة أعمال السجيني رفيعة المستوى للعرض، فضلًا عن تسليط الاحتفالية الضوء على جوانب ومحطات مهمة في مشوار السجيني الفني، وما شهده من تحولات رئيسة في تجربته الإبداعية شديدة الثراء، والمتنوعة بين النحت والتصوير والنحت البارز والخزف الزخرفي والطرق على النحاس.

أول هذه التحديات، قبل التعاطي مع أعمال السجيني، يتعلق بالحدث ذاته، ودلالته الرمزية، إذ يُحسب لقطاع الفنون التشكيلية ووزارة الثقافة المصرية الرهان في مثل هذا التوقيت على فن النحت بالتحديد وقيمة تشكيلية بحجم السجيني، وتبدو إقامة احتفالية ضخمة بهذا الوزن الثقيل بمثابة رسالة ذات مغزى، مفادها انتصار الفن المتأصل منذ الفراعنة، وتأكيد فعل المقاومة الثقافي من أجل مواجهة التيارات الظلامية وأجواء التشدد والعنف، من خلال الفكر والجمال وعناصر القوة الناعمة.

أما أعمال السجيني نفسها، خصوصًا منحوتاته المعروضة، فتتعلق بها التحديات الأخرى، ومنها: نجاح قاعات العرض، بالتنسيق مع عائلة الفنان، في إتاحة أعمال السجيني المتعددة للجمهور بعد أن ظلت بعيدة عن المعارض الفنية ثلاثين عامًا، وعرض مجموعة مهمة ونادرة من إبداعات التشكيلي الراحل "للمرة الأولى"، بما يفتح الأبواب لاستيعاب أعماله على نحو أخصب وأرحب، وتوفير مثل هذا "الكم" من منحوتات ولوحات الفنان في معرض واحد متعدد القاعات، بما يبرز "للمرة الأولى أيضًا" مراحل تطوره وتنقله بين الألوان الفنية المختلفة.

ومما لا شك فيه، أن هذه كلها أمور إيجابية، الأمر الذي جعل أسرة الفنان الراحل تسمّي يوم إطلاق الاحتفالية والمعرض "الفرح"، فيما وصفت إدارة "قاعة الفن" في الزمالك الحدث بأنه انتصار لتلك الأعمال "التي تمتلك شحنات هائلة من المضامين المرتبطة بالمبادئ والمثل العليا".

التحدي الأبرز، الذي تفجره أعمال السجيني النحتية في احتفالية مئويته، مقترن بـ"تحولات الزمان والمكان"، العنوان "الافتراضي" للمعرض، المشار إليه من قبل، وعدد من التساؤلات ذات الصلة، عن طبيعة الصور الذهنية والفنية التي تخيلها الفنان للمستقبل، خصوصًا مستقبل الوطن، ومدى ملاءمة هذه الصور للمعطيات الحياتية الراهنة في 2017 (المستقبل بالنسبة له آنذاك).

يجوز القول إن السجيني فنان على قدر من "الالتزام"، من حيث مسحة الأكاديمية السائدة لديه رغم تلك النزعة التحررية من القوالب بقدر متزن من الوعي، ومن حيث الحرص على الارتباط العضوي الحيوي بالبيئة المصرية وعناصرها الشعبية وتيمات الأرض والنيل والفلكلور وأجواء الموالد والأعياد وما إلى ذلك، ومن حيث الهضم الكامل لتاريخ مصر منذ الفراعنة مرورًا بالعصر الروماني فالإسلامي، وكذلك من حيث "توجيه" الفن لديه في أحوال كثيرة نحو التعبير عن "قضايا كبرى"، ذات طابع اجتماعي أو سياسي أو عسكري، الخ، و"مثل عليا" مجردة من قبيل الانتماء والحق والخير والعدل والتسامح.

مثل هذا "الالتزام"، جعل عددًا غير هيّن من دارسي أعمال السجيني، ينطلقون في تحليلاتهم له من مداخل غير فنية، ذات طابع أخلاقي على سبيل المثال، كما في قراءة الفنان حسين بيكار، التي تمحورت حول "انعكاس أخلاقيات ابن البلد وإحساسه القوي بالانتماء على تصرفاته وسلوكه وعلاقاته ومزاجه، وبالدرجة الأولى على فنه". كما عُرف عن السجيني إيمانه بقدرة النحت على التعبئة وحشد الحس الوطني لدى الجمهور‏،‏ ومن ثم كانت دعوته إلى عرض التماثيل في الميادين والهواء الطلق. بل إن عائلة الفنان السجيني، تروي عنه أنه كان يرى نفسه، فنيًّا، من خلال تلك المحددات، خصوصًا الوطنية: "كل عمل له ينطق بحب الوطن، هذا الحب الذي كان دافعًا للعمل والإنتاج المتواصل. فمصر هي شغله الشاغل، وهي في عينيه وقلبه عروس". 

هكذا، يمكن الولوج إلى عوالم السجيني دائمًا من نوافذ فنية بالغة الرحابة، وأخرى أقل اتساعًا بكثير، تتعلق بقضية ما، أو بحسب وصف البعض "موضوع العمل". السجيني، من هنا، هو مجسّد "العبور العظيم" (أكتوبر 1973) بعمل نحتي يبرز إصرار الجنود المصريين والقارب معًا، على شق مياه القناة وخوض الأخطار والمهالك من أجل تحقيق النصر المنشود بعزيمة الأبطال. كما استلهم الفنان ملحمة بورسعيد وصمودها في مقاومة العدوان الثلاثي عام 1956 في عمل تسجيلي يتناول الكفاح الشعبي، ويبرز دور "العاديين" في المواجهة وحمل السلاح للدفاع عن الوطن.

السجيني، هو ناحت وجوه الرموز المصرية، ومصوّرها بحالة شموخ، بغض النظر عن موقفه منهم أو ذائقته الشخصية، ومنهم: جمال عبد الناصر، أنور السادات، سيد درويش، أحمد شوقي، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، وغيرهم.

السجيني، هو كاشف قلب الأمومة، ونبضها، لدى المرأة المصرية، بل لدى مصر نفسها، التي يجعلها والأم وجهين لعملة واحدة. كما يوحّد، في أعمال أخرى، بين مصر والعروس الشعبية والأسطورية، عروس المولد أو عروس الحلوى أو عروس النيل، التي بداخلها طاقة نور، ولها مذاق هو الدافع لمواصلة الحياة، رغم ما بها من آلام وانتكاسات طارئة. وهكذا، يتنقل الفنان بين أيقوناته الملتصقة ببيئته، معبرًا عن الشراع، والديك، وبرج الحمام، والحارة المصرية، والقرية.

وفق هذا المنظور، أطلق جمال السجيني العنان لخياله ليصوّر وطنه في عمل نحتي كبير بعنوان "مصر المستقبل". ومن منطق الالتزام الاجتماعي، والسياسي، ومفهوم "الحس الوطني المشترك"، يصير "موضوع العمل"، هنا، محرّضًا على أن تكون الرؤية الفردية للفنان هي "صوت الجماهير"، بالتعبير الاشتراكي، الذي لم يفقد بريقه في سبعينيات القرن الماضي، إذ تجددت أصداؤه في أعقاب انتصار أكتوبر 1973، الذي أحيا الآمال في التحرر ووحدة الصف الوحدة العربي.

في "مصر المستقبل"، يقينية تقترب من المطلق، مبعثها شعارية المرحلة. فالمرأة، أو مصر، خارجة لتوها من زهو الانتصار، راسمة بذراعها مسار الانطلاق نحو آفاق عليا من التقدم، والمجد، والتحليق في الأعالي، وتجاوز كل المحن والنكبات. وقبضة اليد تفيض بعزيمة تُلين الحديد، وثمة حركة "تقدمية" إلى الأمام، بشموخ لافت، نحو سيادة ورفعة.

أمام عمل بمثل هذه الضخامة والإتقان الفني، حيث القدرة الفائقة على التعامل مع خامة صعبة، وإبراز هذه التفاصيل كلها، فضلًا عن الحركية التي أضفاها الفنان البارع على "فن السكون" أو النحت، يصعب اختزال الرؤية في موضوع العمل أو شعاريته الزاعقة، على غرار أغنيات انتصار أكتوبر مثلًا أو أفلامه السينمائية الفجة، لكن يبقى "توجيه الفن" إلى إثبات فكرة بعينها حائلًا بين العمل وبين استقباله في حالة مخالفة هذه الفكرة أو هذا الموضوع، التوقعات، خصوصًا بعد مرحلة زمنية تثبت عدم تحقق تلك الطموحات، ومن ثم يتعرى العمل من طاقته الإيجابية، وكأنما خسر روحه، وبقي جسده، الذي لا يخلو من جمال.

إن مُطالع العمل النحتي الكبير "مصر المستقبل"، في مئوية التشكيلي جمال السجيني (2017)، وغيره من الأعمال الكثيرة للفنان، القائمة على استشرافه تحولات المكان والزمان، لربما يشعر الآن بقدر من الاغتراب، عن هذه الأعمال وعن وطنه وذاته في آنٍ، إذ تبدو أصابع الماضي عاجزة عن نحت الواقع الراهن.

 
(*) جمال السجيني، (7 يناير 1917 - 19 نوفمبر 1977)، تشكيلي ونحّات ومصمم ميداليات مصري، حاز جائزة الدولة التقديرية سنة 1962، وعلى وسام الاستحقاق من رتبة فارس من إيطاليا. تولى رئاسة قسم النحت في كليتي الفنون الجميلة بالإسكندرية والقاهرة. برع السجينى في النحت، وفي فن الميدالية، وأحيا فن النحاس المطروق، ومن أبرز أعماله النحتية: "العبور العظيم"، "مصر المستقبل"، "أمومة"، "أمير الشعراء أحمد شوقي" في العاصمة الإيطالية روما. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها