الأحد 2017/04/23

آخر تحديث: 12:29 (بيروت)

صادق العظم مُكرَّماً في "الأميركية": اشتباكات جيليّة وحدَثية

الأحد 2017/04/23
صادق العظم مُكرَّماً في "الأميركية": اشتباكات جيليّة وحدَثية
increase حجم الخط decrease
كأن صادق جلال العظم بيننا. حتى بعد وفاته، ما زال المفكر السوري يثير جدلاً، يستفز مناقضيه في السياسة، ويحفز ناقديه، ومريديه في التنظير. ولعلّ المؤتمر الذي نظمته الجامعة الأميركية في بيروت، تحت عنوان "تكريم صادق جلال العظم، أفكاره وإرثه"، بدأ فعلياً في جلسته الأخيرة، حيث كانت المرحلة الأخيرة من حياة العظم، بداية نقاش كان الأكثر سخونة خلال يوم التكريم الطويل. 


في هذه الجلسة، كان الباحث والصحافي ربيع بركات، صوتاً ممثلاً لكثيرين مثله في الأوساط السياسية والنخبوية اللبنانية والسورية، بل وربما لجيل من المثقفين الشباب الذين يُعمِلون أدواتهم المعرفية "الحديثة" لإثبات صحّة مواقف تعود جذورها إلى نصف قرن على الأقل، إنما "بنعومة" تنظيرية تسعى إلى "تنفيس" موقف العظم المؤيد بجرأة ووضوح للثورة السورية، بالاستعانة بتفاصيل قلما تفضي إلى شيء سوى الرطانة.

فبركات بدأ من محاولة تعريف الثورة، معتبراً أنها تُعرَّف بنتائجها، مشككاً في نتائج ما يحصل في سوريا: ثورة؟ أم حرب أهلية؟ والتدخل الخارجي، إذا ما تغاضينا عن المصالح، هل هو حتمي في إعانة كل الثورات كما قال العظم (أو يفترض أنه قال) في إحدى مقابلاته؟ اعتبر بركات إن إصرار العظم على أن ما يدور في سوريا ليس حرباً أهلية، هو ضعيف.. لأنه لا تعريف في القانون الدولي للحرب الأهلية، بل هناك فقط مصطلح "نزاع داخلي مسلّح"، مضيفاً أن هناك قتلى في جانب مقاتلي النظام ومدنييه، تماماً كما في جانب المعارضة!

ولو أن بركات قَبِل بواقع أن الطائفة يمكنها أن تكون هوية سياسية ونضالية، لا سيما في بقعتنا من العالم، من دون أن يرعبه المُحرَّم المُحنَّط المتمحور حول رفض كل خطاب من هذا النوع باعتباره، حُكماً، طائفياً وتمييزياً، لكان استطاع قراءة العظم، أو حتى الاشتباك معه، بشكل أعمق وأجدى. وطبعاً، كان لا بد لبركات من التوقف عند ما اعتبره "تشخيصاً هوياتياً" لدى العظم، لا سيما في كلامه عن "العلوية السياسية"، في حين أن "بُنية النظام السوري تأثرت أيضاً بشبكة عشائرية ومحيط عائلي وحزب ايديولوجي"، كما قال (بشيء من السذاجة غير البريئة). وذروة الكلام، كانت عن "توقعات" العظم التي خابت، في شأن سوريا ومصر و"داعش"... والتي اعتبر بركات أن عدم تحققها "يثبت" مشكلة في التشخيص وطرح الحلول لدى العظم، الذي، في رأي بركات، انجرف في "حالة التحشيد والتعبئة". وأكثر من ذلك، فإن تدني الحس النقدي ساهم في وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، بحسب بركات.

بشار حيدر يبدّد الدخان..
وهنا، جاءت مداخلة أستاذ الفلسفة في "الأميركية"، بشار حيدر، الذي كُلَّف بدور المناقش في الجلسة، لتُجلي الكثير من دخان التفلسف، بسهولة ووضوح، معدّداً النقاط التالية:

أولاً، لو أن عدد القتلى بين الجانبين (النظام والمعارضة السورية) متساوٍ، لاختلف الموقف الأخلاقي، لكن بحثاً سريعاً في "غوغل" يظهر عدد الضحايا وحجم الدمار في حلب الشرقية، وخان شيخون، وغيرهما، في مقابل دمشق أو حتى حلب الغربية الخاضعة لسيطرة النظام.

ثانياً، ثمة بُعد أهلي للحرب لا أحد ينكره، ومصطلح العلوية السياسية عند العظم هو اعتراف بالجانب الأهلي من الحرب، في حين أن الجانب غير الأهلي هو الدولة التي ما زال لها ممثل رسمي في الأمم المتحدة، وما زالت قادرة على نَيل دعم دول أخرى، وحتى مساعدات المجتمع الدولي لمناطق المعارضة لا تمر إلا عبر النظام. ومع ذلك، فهذا لا يلغي طابع الثورة. فهناك نظام يملك قدرة قتل غير متوافرة عند الطرف الآخر، في حين أنه في لبنان وحربه الأهلية (حيث جرت المقارنة مع المارونية السياسية)، كان هناك تكافؤ في القدرة التدميرية بين الأطراف.

ثالثاً، الهوية الطائفية أيضاً لا تُنفى، وليست كل حرب أهلية خالية من ظالم ومظلوم. في جنوب إفريقيا، كان الانقسام عرقياً، وكان هناك طرف مظلوم، كما أن هناك طائفة مظلومة الآن في سوريا. المارونية السياسية في لبنان، تهيمن، لكنها كما تعترف بنفسها، مجبرة على الاعتراف بالآخرين ضمن تركيبة النظام الطائفي. لكن العلوية السياسية استأثرت بالقسوة والدم والعنف.

رابعاً، ليس كل تدخل خارجي خاطئاً، رغم أنه بالفعل ليس حتمية لكل الثورات. فالتدخل الخارجي في شمال العراق لحماية الأكراد من صدام حسين، كان مطلوباً فعلاً، وجعل منطقتهم، حتى الآن، اكثر استقراراً من سائر البلاد. وما زال الشيعة في جنوب العراق يلومون الأميركيين حتى اليوم لأنهم لم يتدخلوا لنجدتهم من صدّام، لا سيما بعد إيحاءات أميركية أن "ثوروا ونحن معكم".

خامساً، قال بشار حيدر، وبكل بساطة، إن التنبؤ ليس المهم، بل الموقف الأخلاقي، "يمكنني أن أتنبأ بفوز هيلاري كلينتون ولا أصيب، لكن هذا لا يعني أن تأييدي لها في الانتخابات كان خاطئاً"... كما أن "غياب الحس النقدي" ليس هو ما دمّر حلب واقترف مجزّرة في خان شيخون.

وفي الجلسة نفسها، تحدث نائب مدير واحدة الترجمة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-فرع بيروت، ثائر ديب، عما اعتبره "ثقافوية" في مقدمة طبعة العام 2007 من كتاب العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، حيث استشهد العظم بنزار قباني وسعد الله ونوس وأدونيس، محيلاً إلى أنهم كلهم ثقافويون في الفهم الملتبس "للسلطان" ، وكأن الهزيمة كانت مفاجأة لا سيرورة. وانتقد ديب، العظم، مجدداً، على مصطلح "العلوية السياسية"، على اعتبار أنه رأى "الثقافة كهوية تطلق مخالب البشر". وفي رأي ديب أن العظم لم يفهم ما قاله حسين مروة إن العرب ليسوا جنساً أو نوعاً، رافضاً تحميل مروة مسؤولية الهزيمة لجماعة دون الكل، وأضاف: "يكاد نص الكتاب يتوسل الإقناع وتقديم البديل، لا التحليل الجدي لعلاقات القوة والسلطة، فتوارى الفيلسوف لمصلحة الناقد الاجتماعي". وهذا ما علّق عليه حيدر بأنه لا يجب إهمال الهوية كعامل مؤثر، وإن لم تكن جوهرية، لكنها تصبح عاملاً فاعلاً في ظرف تاريخي وسياسي، أكان في السِّلم أو الحرب.

الجيل والحدث
ليس جديداً على الجامعة الأميركية في بيروت الاحتفاء برموز الثقافة العربية، إذ كرّمت مؤخراً كلاً من قسطنطين زريق وسعد الله ونوس، وأخيراً صادق العظم.. لكن اللافت في تكريم الأخير، يكمن في ما تعدّى استعراض الأفكار المفتاحية لمشروع العظم، الثقافي والفكري والسياسي. إذ بدت ممتعة متابعة خيطَين حريريين، دقيقَين وقويين، ربطا الكثير من مداخلات الأكاديميين والمثقفين والكتّاب العارفين بشغل العظم، بعُمق ومن قرب: خيط جِيليّ، وخيط حدثيّ هو الذي تمظهر بوضوح في جلسة بركات-ديب-حيدر إذ تطرقت بشكل مباشر إلى الحدث السوري الراهن، إضافة إلى الحدثيّ في ما يتعلق بموقع الفلسفة والنقد وفهم الاستبداد والاستشراق، الآن وهنا، أكثر من الأمس الذي عاشه العظم.

أما في المنحى الجيليّ، فقد عبّرت أكثر من مداخلة عن التماهي والاشتباك، في آن معاً، بين العظم من جهة، وأكثر من جيل قرأه وتأثر بأفكاره وهضمها ثم استعادها نقدياً أو تبنّياً، من جهة ثانية. ولعل الأجيال الممثَّلة في دينامية التماهي/الاشتباك هذه، بعضها من مُجايلي العظم نفسها، لكن الغالبية ممّن يصغرونه سناً، كانوا شباباً صاعدين إبان هزيمة 1967، ووعوا ما سبقها من مدّ تحررّي واستقلالي ويساري وقومي وعروبي، وما تلاها من ثورة إسلامية في إيران وحروب عقائدية وأهلية، بكل إشكاليات وعُقَد المرحلة العربية والإسلامية هذه.

وفي السياق نفسه، بيّنت أكثر من مداخلة فضل العظم على باحثين ومثقفين، إذ مدّهم بالأدوات والجرأة والثقة، من أجل تفكيك أساطير عديدة لأساطين الفلسفة والدِّين، لعل أبرزها "استشراق" إدوارد سعيد و"قدسية" العبادة والإسلام.

سوزان كساب: الفلسفة والنقد
ها هي الأكاديمية إليزابيث سوزان كساب ترى في مراجعة أفكار العظم مناسبة للتساؤل حول الرابط بين الفلسفة والنقد. تقول إن السردية العربية غالباً ما تعتبر هزيمة 67 نقطة بداية للفكر النقدي العربي، وطبعاً يُذكر هنا كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة". لكن، في رأي كساب، أن الفكر النقدي العالمثالثي نشأ في مراحل "ما بعد الاستقلال" (وهو تعبير فضّلته على "ما بعد الكولونيالية"). إذ بدأ الأفارقة، والأميركيون الجنوبيون، والعرب وغيرهم، يسألون: رغبتنا واضحة في "فكر ذاتي" بدلاً من أفكار الغرب، لكن ما هي هذه "الذات"؟ "الهوية"؟ يفترض أننا قادرون الآن على إنتاج الفلسفة الخاصة بنا، بأميركا الجنوبية مثلاً، لكن ما هو الأصيل، وما هو التقليد؟ ربما يكون العالم العربي/الإسلامي مختلفاً قليلاً بمعنى أنه تخفّف من هذا الهاجس، بالاتكاء إلى تراثه في هذا المجال، ابن رشد وابن سينا.. لكن ما هي الفلسفة العربية المعاصرة؟ وما هو الاستقلال الفلسفي؟ تؤكد كساب، كما يليق بأستاذة فلسفة، أنها لا تملك أجوبة، لكن الأسئلة في حد ذاتها أفكار، وصادق العظم، بريادته النقدية عربياً، يصلح كمعضلة: هل هو فيلسوف معاصر؟

حازم صاغية والاستبداد دِيناً
أما الصحافي والكاتب حازم صاغية، فآثر، في استحضار علمانية العظم، أن يركز على مصطلح فصل الدين عن الدولة بدلاً من العلمنة، ذلك أنها تتضمن هدف توسيع الحرية والطلب عليها، وهي ليست بالضرورة ضد الدين إنما بمعزل عنه. وذكّر أنه ليس من باب الصدفة أن مفهوم intellectual وُلد بعد فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا العام 1905، والحكم ببراءة درايفوس العام 1906، إذ أن هذا المفهوم تعدى فكرة "المثقف العضوي" إلى آخر يصدّق بأن شعبه قد لا يكون دوماً على حق، أو قوميته، أو دينه، وبالتالي هو مثقف منحاز للحقيقة.

ومن الجو هذا، يذهب صاغية إلى مستوى ثان من فصل الدين عن الدولة، وهو إحلال دين سياسي محله، كما فعلت الفاشية والشيوعية وسواهما، بحيث تهيمن الدولة على الدين ومؤسساته وتتسع فرص الاستبداد، وبدلاً من تعدد المستويات، تُدمج المستويات، وهذه هي التوتاليتارية. وليس مفاجئاً القول إن العالم العربي ينتمي إلى النموذج الثاني الذي يستعير من الدين طرق اشتغاله: القصاص، العقاب، الطرد، الفصل، الترفيع، الزعيم الأوحد، خلق إنسان جديد، التأريخ من الصفر، والأهم هي القضية التي، إن انتصرت، حلّ الخلاص (القومي، الاشتراكي، العرقي...)، بدلاً من أن تكون الحياة مشكلة في ذاتها والبشر يطورون أدواتهم للتعاطي معها، ذلك أن الحياة تصبح الحل والنضال. إضافة إلى استبعاد السياسات الوطنية، إذ لا يُترك للسوري أن يفكر في سوريا، أو للعراقي أن يفكر في العراق.

والحال، بحسب صاغية، أنه كان صعباً القول، في هذه الحالة، أننا نريد تغيير المجتمع بمعزل عن السلطة السياسية في حين أن تدخلات الأخيرة مستفحلة هكذا، إذ يصبح الفكر التغييري من دون تغيير السلطة، كمن يلعب كرة القدم من دون رسم حدود الملعب.. ويقول صاغية إن العظم كان ابن تلك المرحلة، وكان من أقوى وأنشط الأصوات في تناوله ظواهر مجتمعية وهدم الخرافة، إضافة إلى "النقد الذاتي بعد الهزيمة" والدفاع عن حق سلمان رشدي في التعبير والإبداع... ويرى صاغية إن المشكلة ليست في ما قاله العظم، بل في ما لم يقله، أو ما لم يستطع قوله.. وصولاً إلى الثورات العربية الأخيرة، خصوصاً في سوريا، مضيفاً إن العظم كان من قلّة قليلة أيدت الثورة، كما لو أنها تفجّر المكبوت السياسي الذي طال كبته، والذي كان الراحل قد انضمّ إلى "ربيع دمشق" بحثاً عن مخرج له، وهو مكبوت جيل كامل أو أكثر.

ياسين الحاج صالح و"مثقفو القراءة"
المسألة الجيليّة تبيّنت أيضاً في مداخلة الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، في اتصال مباشر عبر "سكايب" من اسطنبول. لكنها هنا نوعان من الجيليّة: تلك التي اختار الحاج صالح الإشارة إليها وهي، بحسب وصفه، "انتماء العظم إلى جيل ما يمكن تسميته مثقفي القراءة. مثقفون يقرأون كتباً بلغات غربية أو مترجمة إلى العربية ويتكوّنون بقراءاتهم هذه، ولدى صادق وكثيرين منهم تأهيلاً أكاديمياً مرموقاً. لكن حياتهم خلت بقدر كبير من المعاناة الاجتماعية والسياسية، خلافاً لمعظم مواطنيهم". والثانية، هي، على الأرجح، المضمرة في كلام الحاج صالح إذ قارن بين جيله هو، وجيل العظم، وربما بينه كشخص، كمثقف ومناضل ومنظّر للثورة السورية، وبين العظم كمثقف أيضاً لكن الحاج صالح لا يعتبر أنه انخرط كفاية في فِكر هذه الثورة، على الأرض، ميدانياً. وهذا ما رآه العديد ممن حضروا المؤتمر، تجنياً غير مُقنِع على العظم، إذ لا يأخذ في الاعتبار فوارق الزمن بين كتابَتي الرجلين، ولا الظروف السياسية والثقافية المتباينة. وشعر كثيرون إن الحاج صالح لم يكن مضطراً لإجراء المقارنة هذه، إذ وضع نفسه وتجربته (السجنية والميدانية وبالتالي الفكرية التي تستحق المتابعة والاحترام)، ولو من دون الإفصاح بذلك، في مقابل العظم، الذي كان يمكن أن يشتبك معه من ضمن سياقاته.

قال الحاج صالح: "يحدث أن يقرأ المرء نصوصاً لمثقفين من جيل أساتذتنا، فيدهش من أنهم يقولون الأشياء ذاتها التي يقولونها منذ 30 عاماً، بالأسلوب المجرد ذاته، بالعمومية والهرب من التفاصيل ذاتهما، بغياب أي تجارب حية ذاته.. هذا اسمه رفض للتغير وللتاريخ. وهو مسلك سلفي، حتى لو وعى ذاته ضد السلفية وكان معادياً لها".

وقال: "نحن في العالم ومن العالم، والعالم منا وفينا، ومنهج العظم الذي يعتنق نسقاً تاريخياً للمعقولات، مرتبطاً بأفكار المادية والتقدم، يبقينا في موقع خاص، منفصل عن العالم، بدل أن يدرجنا فيه ويزجنا في صراعاته، وفي عملية صنع المستقبلات المشتركة البديلة. هذا المنهج يبدو مناسباً من أجل التعبئة، لكن التعبئة تفترض مثالاً ناجزاً منتهياً، نهاية للتاريخ أو محطة توقف، نغذ السير نحوها". وأضاف: "في الثورة السورية أخذ صادق موقفاً شجاعاً، لكنه لم يُنظّر له. انحاز إلى كفاح مواطنيه ووقف بقوة ضد نظام التمييز والطغيان المحلي. رفض حصر الانشغال في الإسلاميين الذي برزوا على واجهة الصراع السوري بقوة، رغم أن مقدمات تفكيره كان يمكن أن تقود إلى هذا الموقع. لم يتح له أثناء الثورة، أوربما لم يشأ، أن يعمل على تطوير أدوات أكثر تركيباً. كان الرجل في الخامسة والسبعين وقت تفجرت الثورة"..

واختتم قائلاً: "ما قد يكون أجدى اليوم هو الاشتباك مع شروط اليوم الواقعية ومتاحه الفكري، وتطوير أدوات تفكير ونقد تستوعب تجاربنا الرهيبة الراهنة، والعمل أيضاً من أجل سياسات مضادة للقتل والتمييز، كما للتدهور العالمي في الحريات والعدالة الاجتماعية والسياسية".

ساري حنفي و"ما بعد الاستبداد"
وفي الحدثيّ/الجيليّ أيضاً، بدأ أستاذ العلوم الاجتماعية في "الأميركية"، ساري حنفي، بفكرة لافتة، وهي أنه لا يتفق مع ما نقرأه مراراً في الصحف عن "تخلي المثقف عن دوره في توجيه وعقلنة الرأي العام"، بل يؤمن بعقلنة المسار التغييري طويل الأمد. ولذلك، تجرأ حنفي على اشتقاق مصطلح جديد من "ما بعد الكولونيالية"، هو "ما بعد الاستبداد"، بوحي من العظم. فمنهج ما بعد الكولونيالية، الذي أسسه إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك وهومي بابا، أواخر السبعينات، غالباً ما يركَّز على الثنائيات أو المبالغة في دور الامبريالية، في حين أن كاتبَي "الامبراطوية"، هارت ونيغري، تحدثا عن "فكر امبريالي"، لا امبريالية دولة بعينها. ذكر حنفي أن نقده الأساس للعظم كان في موضوع الديموقراطية، لكنه تلمّس كيف أن الراحل وضعها كمطلب أساس في أجندته السياسية أواخر التسعينات. وإذا كان البحث الاجتماعي يُدار امبريقياً أو مقارنتياً أو سيستماتيكياً، فإن المنهج الأخير لطالما كان غائباً عربياً بسبب الاستبداد. إذ، وبفعل الرقابة الذاتية عند الكتّاب والمثقفين، يبقى نقد المجتمع فضفاضاً وغير محدد. أوربما يغرق في التفاصيل النخبوية والأكاديمية إلى حد يفصلها عن الرأي العام، كما هو الحال مثلاً في 25 مؤتمراً وندوة عقدت في الجامعة الأميركية عن الثورات العربية ومواضيع في فلكها، كما قال، والتي لم تستضف إسلامياً سوى مرة واحدة فقط.

خالد الحروب الذي تجرّأ.. بفضل العظم
أما أستاذ التاريخ والعلوم السياسية، خالد الحروب، فلخّص النقاط الأساسية التي نخر بها صادق العظم، نظرية الاستشراق لدى إدوارد سعيد، نخراً. بدءاً من احتباس سعيد في النصوص الأدبية وغير الأدبية، واستخدامه لها كمنظار وحيد لتحليل رؤية الشرق والغرب، مهملاً التاريخ والسياسة والاقتصاد والنفوذ.. مروراً بأن الاستشراق ليس قديماً بِقدَم الإغريق، بل هو تحول تاريخي نتج في مرحلة معينة وقد يزول أو يخفت وهو ليس صيرورة بلا نهاية.. وصولاً إلى الاعتراض الأهم للعظم على الفكرية السعيدية بأن أي ثقافة حتماً لن تفهم ثقافة أخرى لأنها مقيدة بأدواتها وبالتالي لا بد أن يكون فهمها مشوهاً. فقال العظم إن هذه الفكرة، لو كانت صحيحة، ستُبطل العتب السعيدي على الغرب في رؤيته "الاستشراقية" لأنها لا تكون غلطته بل هي النتيجة الحتمية لدى الجميع، معتبراً إن النظرية مغرقة في الخطأ، إذ أن هناك مشتركات إنسانية تتعدى الثقافة.

لكن الحروب لم يلخص مآخذ العظم على سعيد لمجرد العرض، بل قدّم لذلك بأنه لطالما شعر بأن هناك خللاً ما في "استشراق" سعيد، لكنه لم يكن يملك الجرأة على منازلة قامة محتفى بها إلى الحد الذي ناله إدوارد سعيد. غير أن العظم أهداه أدوات العمل، ليس في ما يتعلق بالاستشراق فحسب، بل "كمثقف مشاكس، لم يبق في برجه العاجي"، وكنافذة على إيديولوجيا الاستشراق التي "اخترعناها نحن"، وطبّقنا استشراقاً معكوساً، وما زلنا نقول إننا "مختلفون"، ما يناسب الغرب لا يناسبنا، وبالضبط بسبب "ثقافتنا" التي نحبس أنفسنا فيها ونؤبّد حبسنا. فالحرية ليست لنا، ولا الديموقراطية، أو في أحسن الأحوال، نحن لسنا جاهزين لها، كما أقنعنا أنفسنا مراراً.

والحال، كيفما قلّبنا مجريات يوم تكريم صادق العظم في "الأميركية"، لا بد أن نُصاب بالشعور نفسه: مَن فكَّرَ ما مات. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها