كان بمقدور عرض Sur le fil (رقص على الخيط) لنصيره بلعزّا (ضمن مهرجان بيروت للرقص المعاصر-بايبود) أن يكون شديداً لو طال وقته أكثر، غير أن مدته لم تتح له أن يحقق ما وعد به، أي "انبثاق شيء آخر يغمره جمال لا يوصف" من عتمته. فما إن بدأ هذا "الإنبثاق"، أو بالأحرى ما إن بدأت تلوح بوادره حتى انتهى مثلما افتُتح. وحينها، بدا المتفرجون حائرين، فتأخروا عن التصفيق كأنهم لأنهم لم يعرفوا إذا كان قد وصل إلى خاتمته أم لا.
انتهى العرض بمشهد بدايته، بالظلام، وبحالته ذاتها، أي الفراغ الدامس. وبين المشهدين، والحالتين، كان ثمة رقص سريع تحت الضوء، مرةً، تنفرد به إحدى الراقصات، ومرةً، هي ورفيقاتها الثلاث. لكنه، وفي كل أوضاعه، بقي على إيقاع واحد، لا سيما أن الموسيقى الغنائية التي رافقته وطبعته اتسمت بتصاعد لحني منسجم.
لقد صنع التكرار"خيط" العرض، الذي، وقبل أن ينقطع فجأةً، بدأ يُحبك بعضه حول بعض. ففتل الراقصات وغزلهن في المكان إياه، وتحت الإنارة نفسها، أنتج شكلاً لحركتهن، شكلاً إلتفافياً، إلا أنه لم ينتقل إلى إبانة محوره أو تقويته حتى. ظلت الحركة بلا مدار. لكنها، أخذت شكلاً قريباً من أشكال الرقص الصوفي، بحيث أنها اتسمت بالدوران، بالإضافة إلى التمايل الدقيق، والإرتطام الخفيف بالجسد.
كل راقصة كانت، من ناحيتها، تؤدي هذه الحركة، وبهذا، كانت تتحرك تحت الضوء، ثم تطوف على حدود بقعته. ولاحقاً، تنصرف منه إلى العتمة، وعندها، تسلم محلها لأخرى. تتالت النوبات الرقصية المنفردة، وجاءت متقاطعة، وأحياناً، متماثلة، وبعد ذلك، تحولت إلى نوبات رقصية رباعية، لكنها حافظت على اتساقها. من الرقص الفردي إلى الرقص الجماعي، لم يتنافر العرض، ولم ينحدر، ولم يفارق فضاءه المحدد بالعتمة. انطلق، لكنه توقف عند عتبة الإقلاع.
يشدد وصف العرض على أن "الظلام لا يعني أبداً الفراغ". غير أنه، ومثلما أظهره، كان يعني الفراغ. استطاع الرقص أن يؤكد هذا الترادف بين الاثنين، لا سيما أنه، ولما دار في الظلام، بدد سكونه، لكنه لم يغيره سوى إلى فراغ. لم يجتزه، وبعبارة أخرى، تمكن الرقص من أن يقلع عن الظلام، وعندما بلغ الفراغ، لم يقلع منه. مرد ذلك، أن هذا الرقص بلا محور، أكان صلباً أو هشاً، بحيث أن كل راقصة من راقصاته تكاد لا تدور حول نفسها. ولما تقاسم أخرياتها الحركة لا تلتقي بهن.
يتجاورن، يتباعدن، لكن صلتهن لا تقوم بجريان ما بينهن. وبذلك، هن رقصن حول بعضهن البعض، وليس بين بعضهن البعض، ما أفضى إلى كونهن أهلن الظلام بحركتهن، فلم يعد خالياً، لكن جلبتهن فيه حولته إلى فراغ، ولما حصل ذلك، انكفأن عن عبوره. لو أن الجريان بين الراقصات موجود لما توقف عرضهن بعدما بددت حركتهن الظلام، وبالتالي، لما توقف على تخوم الفراغ، ذلك أن الجريان هو الكفيل بإنشاء مدار حركتهن، محورها، الذي بإمكانهن أن يرتكزن عليه للذهاب من الفراغ إلى "إنبثاق شيء آخر" في العتمة.
فعلياً، برفورمانس نصيرة بلعزا، كما قدمته مساء البارحة، هو بمثابة مدخل جيد إلى عرض أفضل، لنقل أنه أول "الخيط"، الذي ينقل، وبواسطة الرقص، باعتباره معاودة حركية، من الظلام إلى الفراغ، ومن الفراغ إلى الطلوع. أول "الخيط"، الذي من الممكن نسجه، وإبرامه أكثر، حتى يصير ثابتاً، ومشدوداً، وعندها، يغدو للرقص عليه أثراً في وجدان المتفرجين عليه، بدلاً من أن يكتفوا بملاحقة الحركة عليه، وترقب ما ستودي إليه، ترقب "شيء آخر" لم يحل البتة. عرض بلعزا هو أول "الخيط"، الذي يحتاج إلى المزيد من الحياكة، لكي لا يبقى عالقاً في فاتحته المطابقة لخاتمته.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها