الخميس 2017/04/20

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

"آخر أيام المدينة": سيرة التحولات وانتظار ما لا يأتي

الخميس 2017/04/20
increase حجم الخط decrease
ينهض "آخر أيام المدينة" للمخرج المصري تامر السعيد حول شخصيته الرئيسية (خالد عبدالله)، وهو مخرج سينمائي قليل الكلام ومراقب حذر يحاول إنجاز فيلم عن القاهرة في أواخر 2009، في ذروة حركة الاحتجاجات الشعبية والفئوية التي مهّدت لإزاحة حسني مبارك بعدها بعامين. ثمة خط سردي آخر يدعم مسار استقصاء المدينة وهو بحث خالد عن شقة للانتقال للعيش فيها، وهناك عاملان آخران، بعيداً من التوتر السياسي، يضيفان ضغطاً على بطل الفيلم: مرض أمه التي ترقد في المستشفى، والرحيل المرتقب للمرأة التي يحبها إلى خارج مصر.


من بعيد، يجد الفيلم أصداء مشابهة في "ذكريات التخلف" للمخرج الكوبي توماس غوتيريز أليا، حيث يواجه بطل الفيلم نفي عائلته وزوجته إلى خارج كوبا، وسط فوضى تعمّ البلد بعد وصول فيديل كاسترو إلى السلطة بعامين، وأزمة خليج الخنازير في العام 1962. في الفيلم الكوبي، يُمزج الوثائقي بالروائي، ويقول أليا عن ذلك إن اللجوء إليه يسمح له بأخذ مسافة من الواقع والتفكير فيه بينما التوثيق يسمح بتتبع الأحداث لحظة وقوعها، وهذا ما يحدث تمامًا في الفيلم المصري. ولكن إذا كان ثقل الواقع في "ذكريات التخلف" يسحق البطل في النهاية، فإنه في "آخر أيام المدينة" يبدو أمراً غير منتهٍ، لذا يصبح استقصاء المدينة بحثاً لا يمكن أن تظهر له نهاية في الأفق. ذلك ليس فقط لأنه فيلم عن مصر في الفترة السابقة مباشرة لانتفاضة 25 يناير، ولكن أيضاً للظروف التاريخية التي تُنشئ "تحولاً ذاتياً" بداخل العمل الوثائقي.

حتى في بناء الشخصيات، يستخدم السعيد أسلوباً مشابهاً لغوتيريز أليا مثل تزامن الصوت والصورة، والذي من خلاله يحمل تقديم المواد المصوّرة وزناً أكبر مما هو ظاهر على الشاشة، معطوفاً على الضبابية التي تحكم الأجواء والمراوحة المستمرة بين ما هو كائن وما هو متذكَّر. المقابلة بين تلك القاهرة المأزومة أو قاهرة الربيع العربي، وتلك القاهرة المنقضية والمستجدية للعواطف، تذكّرنا بلمسات من مدن جعفر بناهي وكريستوف كيسلوفسكي وآخرين، وفي جانب متصل، تحاول الإضاءة والألوان والأصوات والنوستالجيا الممتدة على طول الشريط العبور إلى فهم التاريخ الشخصي والعام. ولكن إذا كان التخلّف في فيلم غوتيريز أليا هو عدم القدرة على ربط شيء ما بآخر، ففي الفيلم المصري، بذكرياته وأسئلته المتشعبة، تأخذ المقاربة مسارات لا يكفيها الفيلم بدقائقه الـ118.

مشاوير البحث المتكرر برفقة سمسار العقارات، والتي يقوم بها خالد، تصلح مجازاً لرحلة أخرى يقوم بها كمخرج يحاول البحث عن مدينته، فالقاهرة التي يريد تصويرها لا يستطيع النفاذ إليها وسط ركام الأجساد البشرية والاختناق المروري وأخبار الرئيس التي تعج بها الأجواء. الأمر ذاته يمكن الوقوف عليه من خلال أصدقاء خالد، وهم ثلاثة مخرجين من أبناء جيله، الأول عراقي (حيدر حلو) متمسك بالبقاء في بغداد حتى الموت، والثاني عراقي أيضاً (باسم حجّار) ولكنه اختار الرحيل عن بغداد للأبد والحصول على تأشيرة لجوء في ألمانيا، والثالث لبناني (باسم فيّاض) يعيش في بيروت ويعجز عن تصويرها، كلهم يحاولون إنجاز أفلام عن علاقتهم بالمدينة التي نشؤوا فيها، هي المدن التي تظهر وكأنها تنتظر حدثاً كبيراً لم يكن صنّاع العمل يدركون أنه سيقع فعلاً، إذ بدأت انتفاضات الربيع العربي بعد 6 أسابيع من انتهاء تصوير الفيلم.


هنا، يحاول خالد الخوض في مغامرة أخرى لترميم ذاكرته واستعادة ماضي والده، الذي كان يعمل في برنامج "أبلة فضيلة" الشهير للأطفال. يذهب خالد إلى إستديو البرنامج بحثاً عن إجابات لأسئلة معلّقة توقظ فترات معتمة في تاريخ أسرته، عندما ترك والده العمل في البرنامج بعد حادثة مقتل ابنته إيمان والتي كانت من محبي البرنامج، لكن سعي خالد لا يأتيه باليقين المطلوب. مراوغة اليقين هو ما يقوم به الواقع مع أغلب شخصيات الفيلم، فخالد لا يستطيع إكمال فيلمه ويشعر دائماً أن هناك شيئاً لا يزال ناقصاً لا يعرف ما هو تحديداً، والأصدقاء المخرجين الثلاثة نراهم في جلسة على أحد مقاهي وسط القاهرة يورد كل منهم أسباب علاقته بمدينته ويردّ كل منهم على الآخر لمحاججته، وحبيبة خالد السابقة (ليلى سامي)لا تجد طريقة للتعبير عن حبها له في الشارع فتقرر ترك مصر، والمخرجة المسرحية حنان (حنان يوسف) التي هربت من الإسكندرية بعد زوال ذكرياتها هناك فجاءت إلى القاهرة، كل ذلك لا ينفصل عن السؤال الذي يشغل بال خالد عن كيفية التقاط الصمت وسط ضوضاء القاهرة، وهو السؤال الذي يطلب من مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلمه أن يجعله عنواناً لمقطوعة موسيقية يستعين بها، وهي المقطوعة ذاتها التي سيسمعها المشاهدون مع نزول تترات "آخر أيام المدينة".

في الحقيقة، أجمل لحظات الفيلم هي المشاهد التي يسيطر فيها الصمت على الصورة، فلا يجد الزحام ولا ضوضاء المدينة مكاناً لهما وتبدو الأشياء كما لو كانت في أماكنها، مثل تلك المشاهد التي يصوّرها حيدر في بغداد فتبدو مدينة وديعة هادئة بسماء صافية وقت الغروب، أو المشاهد العابرة من شباك شقة خالد حين تحلّق أسراب الحمام في دوائر فوق القاهرة بينما هو قابع وراء الشباك الذي يبدو كقضبان سجن، أو مشاهد تلك الوردة البيضاء التي تظهر أكثر من خمس مرات على طول الشريط في أزمنة وأماكن مختلفة، ربما لتذكّرنا بضرورة الانتباه لها دائماً وسط ما تمور به الأجواء من بشاعة وضيق.

"آخر أيام المدينة" وإن بدا مميزاً، لا تغيب عنه هنّات التجربة الأولى حيث يحاول أغلب المخرجين الحديث عن كل شيء في باكورتهم، والسعيد نفسه كان واعياً لذلك، لذا نرى في أحد المشاهد مونتير الفيلم الذي يصوّره خالد عن القاهرة (وهو نفسه الفيلم الذي نراه بشكل كبير) يخبره بلا جدوى كل هذه الشخصيات والمشاهد التي يصوّرها. هناك كمية هائلة من المواد في هذه الفسيفساء المعقدة حول المدينة، لكن ليس كل شيء يتطور بشكل جيد أو أساسي للقصة، وجمع هذه الوجوه المُعبِّرة في حركة المرور الصاخبة والخانقة، أو تلك التائهة في فوضى شوارع وسط القاهرة في لقطات مقرَّبة، وربطها بالتأثيرات الوافدة للثقافة الإسلامية المتشددة وسياسات هدم المباني القديمة ذات الطرز المعمارية العريقة واستبدالها بأبراج سكنية عملاقة أو مولات تجارية.. يفرض الانطباع بأن تامر السعيد يريد نقل تلك الحالة إلى المشاهدين، وكأنه يقول لهم أن التفكك الذي يبدو عليه الفيلم ليس سوى انعكاس لحالة عامة مسيطرة، وأن البلد فقَد بوصلته منذ زمن بعيد.


يُعرض "آخر أيام المدينة" ابتداء من الخميس 20 نيسان/أبريل الجاري في سينما "متروبوليس –أمبير صوفيل" لغاية 3 أيّار/مايو. وما زال الفيلم ينتظر موافقة الأجهزة الرقابية على عرضه في مصر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها