الإثنين 2017/04/17

آخر تحديث: 10:03 (بيروت)

أعياد الدم

الإثنين 2017/04/17
أعياد الدم
احتفالات الربيع في زمن صدام (انترنت)
increase حجم الخط decrease
كانوا يطلقون عليها "أم الربيعين"، لطول فصل الربيع فيها، مقارنة بمناطق أخرى من العراق. وكانت هذه السمة لمدينة نينوى، الدافع الأساسي في نهاية الستينات لإعادة إحياء احتفالات الربيع التي كانت المملكة الأشورية تحييها كل سنة لمدة 12 يوماً. كانت هذه الاحتفالات تقام برعاية وزارة الثقافة والإعلام، لعشرة أيام متواصلة من عروض فنية وحفلات غنائية أحياها مشاهير مثل عبد الحليم حافظ، وردة الجزائرية، سميرة توفيق وصباح فخري وآخرون. كذلك تضمنت الاحتفالات فعاليات منظمة من المدارس والجامعات ومسيرات وكرنفال ورحلات عائلية في مناطق الشمال. كانت نينوى مقصد أهل بغداد تحديداً في الربيع، لمشاهدة كرنفال الألوان والزهور. واعتدنا نحن الموصليين، أن نتوقع وفوداً من مئات السيارات العائلية الآتية من مختلف مدن العراق لمشاركتنا "الربيعين". 

ولا أعرف إن كان مقصوداً أم صدفة أن تتزامن احتفالات الربيع كل عام مع احتفالات عيد الفصح المبارك. كانت ألوان مواكب الكرنفال تختلط بألوان "البيض" في بيوت المسيحيين، ومن ديانات أخرى لم يكن يسمع بها المواطن العراقي العادي قبل 2003!

في مرات كثيرة كنتُ أفهم أن هذا الاحتفال هو تغطية "وطنية" على احتفال ديني لفئات لم تعد غالبية في المدينة. وفي بعض المستويات كان ظني هذا أقرب الاحتمالات. إذ كان من الممكن إقامة هذه الاحتفالات في أي تاريخ آخر من نيسان، غير التواريخ التي تتقاطع مع عيد الفصح. لم يشهد عقد الثمانينات اضطهاداً ملموساً للمسيحيين في العراق أو التجاوز على احتفالاتهم. عدا بالطبع القسمة غير العادلة في عدد أيام العطلة الممنوحة للمسيحيين في أعيادهم مقارنة بأعياد المسلمين، وتخصيص وظائف ومناصب بعينها للمسلمين دونهم. وكأن هذا لم يكن تجاوزاً على حقهم كمواطنين بل نتيجة طبيعية لسيطرة حكم "إسلامي عربي" بثوب بعثي اشتراكي. وهذا ما تنتهجه غالبية الدول العربية والمسلمة في قوانينها الإجتماعية على ما يبدو! بل وصل الأمر في لحظة ما، إلى أن "يتفضل" المواطن المسلم، على مواطنهِ المسيحي بأنه يتمتع بعطل المسلمين والمسيحيين، لكن المسلم لا يحصل على هذا الامتياز.

ولأن المسيحيين في العراق كانوا يعلمون أنهم "مستضعفون" بأثر رجعي ولا قوة "وطنية" مذكورة تستطيع حماية حقوقهم الطبيعية كمواطنين، كانوا يستقبلون هذه التعليقات من باب المزاح والسخرية. لكن الوعي كان حاضراً بينهم. كانوا يعلمون جيداً أن هناك حركة غير بريئة، تسعى إلى وضع حدود حولهم لتمييزهم عن البقية. فهم أذكى بكثير من أن تنطلي عليهم لعبة "الحيّة والسلّم". فكلما علا صليب كنيسة في حيّ ما، كان لا بد أن تعلوه منارة جامع في المقابل، حتى لو كان هذا على حساب تسوية بيوت وصروح أثرية مع الأرض. لم يكن العراق علمانياً يوماً، رغم ما تروج له بعض الأصوات البائدة والبائتة، التي لا ترى من العراق سوى التنانير القصيرة والأناقة الإنكليزية منذ العهد الملكي، متغافلة تماماً عن ملايين الفقراء في أطراف بغداد والقرى الذين لم ينتعلوا نعلاً، حتى لو مطاطياً في يوم من الأيام.

لكن صدام حسين فهم الوضع جيداً. برع بمهارة ثعلب في كسب ثقة المسيحيين بتوفير الأمن والأمان لهم. وهذا ما كان يفعلهُ عادة مع فئات تختلف معه في الفكر والسياسة والسلطة. فكان هناك نوع من الاطمئنان لهُ من جانب العراقيين المسيحيين، خصوصاً بعد حادثة قتل متذوق الطعام "المسيحي" الخاص به، على يد ابنه عدي، بعد خلاف عائلي معروف، عندما ظهر في الشاشات والتقى بعائلة المغدور به بثياب حدادهم "المسيحية". واعتبر كثير من المسيحيين، المقيمين في الداخل بالطبع، أن حركته المشهورة في الهجوم على ابنه عدي، والتسبب باعاقتهِ هي "العدالة المستحقة" لما قام به، حتى لو طال الانتظار.

أتذكّر كل هذا وأنا أصحو قبل أيام قليلة على فاجعة تفجير كنيستين في مصر يوم عيد الأقباط. كما اعتدنا أن نصحو منذ سنوات على تفجير كنيسة، أو زيارة شعبانية أو عزاء أو عرس كي يستهدف أكبر عدد ممكن من الضحايا. وفي كل مرة نوجه غضبنا على الأنظمة الفاشلة وعلى المجاميع المتطرفة المدعومة من أطراف معروفة لاستهداف هذه الفئة من المواطنين، ونشتُم الأصولية التي تغذي الفكر التكفيري القاتل. ولكن، ماذا يحدث بعد ذلك؟ هل يتحسن الوضع؟ هل يعود الآلاف، بل ملايين المسيحيين إلى العراق بعد كل ما حدث لهم؟ هل ستشهد الموصل مهرجان الربيع متزامناً مع تلوين البيض والقلوب بالمحبة والفرح؟ هل سيحتفل الأقباط بأعيادهم من دون أن يحملوا أرواحهم على أكفهم كلما عبروا بوابة التفتيش الأمني للكنيسة؟ أغلب المصريين يقولون إن مصر ليست العراق وسوريا، ولن يحدث ما "نتوقع" لهم كما حدث لنا، وربما هم محقون. فالصراع الطائفي وتعدده متباين في النسبة بين هذه البلدان. ولكن هل الدم أيضاً "متباين"؟ لا أعتقد.

كي نفهم ما يحدث لنا جميعاً، أظنهُ بات لزاماً أن نقف عند نقاط كثيرة ربما يجدها الكثيرون عادية، لكنها في الحقيقة أساس الخراب، كتقسيم عطل الأعياد بين الطوائف مثلاً من قبل الأنظمة التي تحكمنا. كي نفهم ما يحدث لنا، علينا أن نعيد النظر في الأنظمة والدساتير التي تحكمنا وجعلتنا نخاطب مواطنين مثلنا بتعبيرات مبتذلة مثل: "أخوتنا المسيحيون" أو "شركاؤنا في الوطن"! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها