السبت 2017/04/15

آخر تحديث: 16:16 (بيروت)

"المشّاءة" لسمر يزبك.. صرخة طفلة تعرّي وحشيّة الحرب

السبت 2017/04/15
increase حجم الخط decrease
تروي الكاتبة السوريّة سمر يزبك في روايتها "المشّاءة" حكايات من واقع الحرب السوريّة المستعرة على لسان طفلة صغيرة ساهمت ظروف الحرب بإنضاجها قبل أوانها، ودفعتها إلى التحدّث بلغة الكبار واستخدام مصطلحاتهم الغريبة عليها. تحكي كيف أنّ الحرب شوّهت طفولتها وبراءتها وألقت بها في عتمة قاتلة، وأوقعتها ضحيّة إجرام عبثيّ يمارسه أشخاص تجرّدوا من إنسانيّتهم وتحوّلوا إلى وحوش بشريّة.

الطفلة التي تعاني كثيراً من المشاكل النفسية والجسدية، لا تستطيع المكوث في مكان بعينه، تبقى دائرة حول نفسها، ماشية من نقطة إلى أخرى. يمنحها المشي قدرة على التنفّس، يحقٌّق لها كينونتها المستلبة، ويبقيها على تواصل مع الحياة. وكأنّ المشي يكون بالنسبة لها صمّام أمان، أو كوّة تنفّس إجباريّة تفقد من دونها هويّتها وتوازنها وتقع فريسة مخاوفها والمخاطر التي تحيق بها من مختلف الجهات، لكنّها تفقد تلك المتعة واقعياً، وتسجن وتحاصر، فتسعى إلى التعويض في السرحان بالخيال والمشي في الأعماق المنفتحة على مآسٍ رهيبة..

الطفلة التي كانت تعيش مع أمّها العاملة البسيطة على في الغوطة الشرقية لدمشق، على أطراف بلدة جرمانا، في غرفة بائسة، تكابد مع أمها جراحها ومشقات العمل والاستمرار، تشاهد أمها وهي تضغط على نفسها، لا تفصح عمّا يكئبها، تحاول قمع ابنها الثائر على جرأته ومقاومته واستعماله مفردات الثورة المرعبة لها، والتي تكون كفيلة بدفعه إلى حتفه في حال تمّ القبض عليه أو الوشاية به من قبل النظام الذي يتعامل مع معارضيه بطريقة انتقاميّة بشعة.

تتناسل الحكايات، تتوالى، تتوالد كصور حية في ذهن الطفلة الراوية التي تشعر أنها موكولة بنقل مآسٍ تكون شاهدة عليها، تدوّنها للريح والزمن، تتوجّه إلى قارئ مفترض يمكن أن يعثر على أوراقها المتناثرة في المكان الذي احتجزت وحوصرت فيه، وكان الناس يتساقطون أمامها جرّاء القصف المستمرّ بمختلف أنواع الأسلحة عليهم من قبل النظام.

تتنقّل الطفلة الراوية في عوالمها السحريّة، تتحدّث عن كواكبها السرّيّة، تنقل أحلامها وكوابيسها، يتداخل لديها الواقع بالتخييل، تهرب من بشاعة المعاناة والتقييد إلى رحابة الحلم الذي يعيدها من جهة أخرى إلى واقعها العنيف الهشّ، ويغرقها بالفجائع. وتراها تتحرّر من الالتزام بحبكة متصاعدة، تختار الحكايات كدوائر تتقاطع وتتماس فيما بينها، تدور في فلك مأساتها الشخصيّة ومأساة بلدها العامّة.

تستعين الطفلة الراوية بكتب أثرت فيها بطريقة ما كـ"الأمير الصغير"، "أليس في بلاد العجائب"، "فقه اللغة"، تتماهى مع أبطال الحكايات التي تتذكّرها، وتعجب بمرونة اللغة وانسيابيّتها وقدرتها على التوصيف واختلاق المرادفات والتعبير عن المعاني، وتكون بحكم إدمانها على القراءة في المكتبة مطلعة على كثير من الأشياء والأفكار التي تكون غريبة على مَن بعمرها، ثمّ تحاول نقل تلك التجارب القرائية إلى حكايات مصورة ومكتوبة إلى قرّاء مفترضين، تبوح وتكشف عمّا ينخر روحها، وتتصدّى بالكتابة لجرائم الواقع، توثّق مشاهداتها، تؤدّي دورها في الحرب كشاهدة شهيدة.

تستنطق صاحبة "لها مرايا" الطفلة الصغيرة وتكلّفها بتأدية مهمّة كبيرة، وهي الانتصار للضحايا وتجريدهم من حالة الترقيم، والحديث عنهم كأرواح وبشر لا كأرقام ضائعة في لجّة الحرب والقتل والدمار. تكون الطفلة بائحة بهواجس محيطها، متقمّصة بدورها شخصيّات أكبر منها، وتكون أداة الروائيّة في لعن الحرب والاقتتال بالبراءة والأسى. تراها تحكي عن أجساد مقطّعة وأشلاء متناثرة وكأنّها تحكي كابوساً من كوابيسها التي تغرقها، لكنّها في الواقع تهرب من حصارها واختناقها وقيودها وتسرح بخيالها في عالم المشي المنشود الذي حرمت منه.

يحكم وثاق الطفلة إلى حديد النافذة في قبو بائس، تشهد من مخبئها دمار البلاد برمّتها، تشهد مجزرة الكيماوي المرتكبة في الغوطة، تكاد تكون إحدى ضحاياها، تصوّر المشهد المأسويّ المرعب بلغة اللون والصورة والرسم، لا تكاد اللغة تسعفها في نقل الخراب والعنف والإجرام والإرهاب الذي عاشته مع غيرها من أبناء الغوطة وضحايا الكيماويّ، تبتدع ألواناً للعذاب الذي تفشّى هناك ودمّر الحياة والطبيعة، وتخترع لغة تواصلها الخاصّة وأبجديتها المشفّرة التي تختصّ بها وتلجأ إليها.

تلتقط الراوية مفارقات عبثية ومشاهد أليمة ومريرة، تصوّر التغيير الذي اجتاح المكان؛ دمشق ومحيطها، وكيف أنّ الشوارع قطّعت أوصالها، وجعلتها جزراً بعيدة عن بعضها بعضاً، حبست أهلها وحاصرتهم بالحواجز التي بدأ عناصرها من الجيش والشبيحة بابتزاز الناس واستغلالهم والتقاط المشكوك بهم، ناهيك عن عرقلة حركة المرور وتلويث المدينة بممارسات قذرة وشعارات طائفيّة بغيضة.

تصرخ الطفلة الغافية المقيّدة معرّية وحشيّة الحرب وإرهاب المجرمين، تستغيث، تبحث عن بارقة أمل وسط الخراب المعمّم، تتشبّث بخيط الحياة، تنجو من عدد من المجازر التي تشهدها، تستذكر أشخاصاً صادفتهم أو صادقتهم لفترة ثمّ فقدوا بطريقة بشعة في القصف والتعذيب. تتخلّل إلى مخابئ النظام والمشافي التي حوّلها إلى سجون وأماكن تعذيب، تكشف ما يسود من رغبة انتقاميّة قاتلة لدى الشبيحة وحقد منقطع النظير على أبناء البلد الذين يرونهم أعداء ومجرمين فقط.

يكون هناك نوع من المحاكاة والتقاطع من قبل صاحبة "بوّابات أرض العدم" في "المشّاءة" مع كتاب "آخر الشهود.. لحن منفرد لصوت طفل"، للبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة 2015، التي روت على ألسنة الأطفال مشاهداتهم وحكاياتهم وتصوّراتهم عن الحرب البشعة التي شهدوها وعانوا من ويلاتها، وكانوا أبرز ضحاياها، وحملوا معهم ندوباً غير قابلة للمداواة والتطبيب، وجراحاً دائمة النكء عبر الزمن، وظلّوا قابعين في أنفاق الخوف والفقد لعقود، وكان البوح وسيلة استشفاء نسبية لاحقة لهم. 

• الرواية صادرة عن دار الآداب في بيروت 2017. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها