الأربعاء 2017/04/12

آخر تحديث: 15:36 (بيروت)

سمير فرنجية.. أو كيف تصنع ثورة بهدوء

الأربعاء 2017/04/12
سمير فرنجية.. أو كيف تصنع ثورة بهدوء
انتخب فرنجية رئيساً للمجلس الوطني لقوى 14 آذار في حزيران 2015
increase حجم الخط decrease
كانت الحيرة في حقبة التسعينات من القرن الماضي، شقاءنا السياسي والفكري. سجال رواية الحرب وأسبابها وذاكرتها ومسؤولياتها، وسجال المصالحة والمصارحة والمراجعة، وسجال إعادة الإعمار والبناء، وسجال "الجمهورية الثانية" ومعنى تجديد "الصيغة" و"الميثاق الوطني"، كما سجال الهويات وأفول الأيديولوجيات.. كانت حيرة ثقيلة ومدوّخة.

كان علينا جميعاً مغادرة مواقعنا السابقة، أن نتحرك بعيداً من جغرافيا أخطائنا المميتة، أن نبتعد عن منظومة الاحتراب والشقاق ودوامة الحروب المتناسلة. وكان هذا كله محفوفاً بالتردد والخجل والشعور بعار الماضي والتاريخ.

من هذه الحيرة، ومن تلك السجالات، انطلقت ديناميكية "حوار" لبناني، قام نظرياً على اعتراف اليسار بمزايا "الفكرة اللبنانية" والإقرار بواقع الجماعات والطوائف، واعتراف المسلمين بنهائية الوطن اللبناني، في مقابل اعتراف اليمين بالإصلاح، واعتراف المسيحيين بحقوق الجماعات الأخرى والمساواة والشراكة.

أفضت التسعينات بتجاربها وحوادثها ومنعرجاتها، وفي نهايتها، إلى وعي يتجاوز ذاكرة الحرب ولغتها واصطفافاتها. كما برز جيل جديد من الشباب اللبناني، توضحت لغته في حركة طلابية نشطة بشّرت بحيوية سياسية واجتماعية تتخطى الانقسامات الحزبية والطائفية القديمة.

طوال تلك الحقبة، كان سمير فرنجية يعرف ماذا يجري، فبوصفه أحد مهندسي "اتفاق الطائف" ولغته، كان يرى في تلك الديناميكية الجديدة تحقيقاً لطموحه الشخصي وطروحاته في "التلاقي" و"الحوار" وإعادة ترميم اجتماع لبناني يتجاوز "التعايش" إلى أصالة "العيش المشترك".

كان هو كشخص يجسد تلك الأفكار الصعبة. فهو المسيحي الماروني، واليساري البارز في "الحركة الوطنية"، بل ولصيق حركة "فتح" الفلسطينية، وصديق كمال جنبلاط، وسليل العائلة الأرستقراطية التقليدية المتخلي عن غواية الزعامة العائلية، والمقيم في قلب "بيروت الغربية"، الذي لم تنقطع صلاته بالطرف الآخر. كان منحازاً ووسيطاً ومبادراً في آن معاً.

في العام 2000، التقيتُ سمير فرنجية في مكتب السفير سيمون كرم، بحضور سمير عبد الملك وفارس سعيد. شيء ما يحدث في الخفاء وبهدوء وحذر. الطلاب الكتائبيون والقواتيون والعونيون والاشتراكيون واليساريون الجدد.. سوية في حراك سياسي يومي. الكنيسة بقيادة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير مفتوحة على لقاءات ومبادرات وأفكار. وليد جنبلاط ورفيق الحريري على وشك معركة انتخابات نيابية شديدة الأهمية في مستقبل لبنان.

في ذاك اللقاء، أدركت على نحو مباغت وجلي أن هؤلاء الرجال (ورفاقهم) يكتبون بنجاح، للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب، لغة سياسية لبنانية جامعة منبثقة من منجز "الطائف"، ومن معنى "المراجعة" ومن هاجس بناء "الجمهورية الثانية". كان الزعم حينها، أن هذا الحراك ليس سوى "تمرد" مسيحي، وخروج فئوي على الطائف، ومحاولة ثأر من هزيمة الحرب، وارتداد عن عروبة لبنان.. إلخ.

بعد أيام، داخل مكاتب جريدة "النهار"، فوجئت باجتماع الياس خوري وسمير قصير وسمير فرنجية وسعود المولى: نقاش محموم في التوفيق بين الاعتراض الثقافي على مشروع رفيق الحريري والمشاركة معه (رمز المال والسلطة) ومع وليد جنبلاط (من رموز الحرب) ومع الكنيسة المارونية (رمز النظام الطائفي) في معارضة وطنية دفاعاً عن الديموقراطية والحريات والدستور. وكان سمير فرنجية، بهدوء شديد، يتحدث عن الوجه الآخر لوليد جنبلاط ورغبته العميقة في المصالحة والحوار، عن الوجه الآخر لرفيق الحريري وطموحه في استعادة لبنان المستقل والحر، عن صدق البطريرك صفير في إخراج المسيحيين من إحباطهم وتشجيعهم على حياة الشراكة و"العيش معاً". كان يتحدث وكأنه خياط "العقدة الخفية" التي تجمع هؤلاء على نحو لم يتخيله لا الأعداء ولا الأصدقاء. هكذا كان أحد أخطر المناوئين لهيمنة النظام السوري على لبنان.

شاهدته، كصحافي مراقب، في اجتماعات "البريستول" العام 2004، كان هو صلة الوصل بين كل اثنين، بين كل فريقين، بين كل فكرتين. يجمع المسودات والعبارات المتطايرة والملاحظات العابرة، إما في ذهنه أو في تدوينات سريعة. تلك الاجتماعات كانت تتوجّ غالباً بذهابه هو وثلة مختارة إلى غرفة جانبية حيث "الصياغة" الدقيقة لكل مفردة في البيان الختامي. وعلى الأرجح، كان دوره في تدبيج لغة "المعارضة" حينذاك، نبذ الفظاظة وإضفاء البُعد الثقافي على القول السياسي.

بدأت صداقتي معه، أواخر شباط 2005، ففي احتشاد "انتفاضة الاستقلال" كنت أجد نفسي لصيقاً بحركة "اليسار الديموقراطي" وصديقاً لحركة "التجدد الديموقراطي". لكننا، نحن المستقلين، كنا نجد أنفسنا تلقائياً بصحبة فارس سعيد وسمير فرنجية، فهما مثلنا وقبلنا، خرجا من حزبيات واصطفافات سابقة، خرجا من ضيق الجماعات الأهلية وهوياتها وعصبياتها نحو رحابة "المواطنة" اللبنانية المقيدة بشرط الديموقراطية والمفعمة بالروح الليبرالية.

كانت غواية فارس سعيد وسمير فرنجية آسرة بالنسبة إلي، كي "أتورط" حتى العام 2011 في العمل اليومي مع "الأمانة العامة" لحركة 14 آذار، ولأشهد بحسرة، الانسحاب البطيء والتدريجي للطوائف وأحزابها من المشروع – الحلم، ومن ساحة الثورة المدنية السلمية الأولى في العالم العربي، الثورة الديموقراطية الأنضج في نبذ العنف، والأوضح في برنامجها الوطني والجامع، والأنصع في حداثويتها وليبراليتها، والتي تعرضت لأكثر أنواع الإرهاب لؤماً وظلامية وخبثاً. إرهاب الاغتيال الممنهج والغادر، وإرهاب التهديد بافتعال حرب أهلية كل صباح.

ومع كل اغتيال وكل عمل إرهابي، كان الغضب والرغبة في الانتقام والثأر ورد الفعل الغريزي يستحكم بالجميع. حينها كان من أعماق حزنه وقهره، يروح سمير فرنجية للبحث عن مبادرة معاكسة، يبحث عن فكرة قد تغري الخصوم بالتخلي عن عنفهم وقسوتهم وعداوتهم. وفي كل اجتماعات 14 آذار، كان يستنكر أي نزعة أو تعبير أو رغبة بـ"هزيمة حزب الله" مثلاً، إذ أن الفكرة الأثيرة بالنسبة إليه كانت: كيف السبيل لجمع إنجاز "التحرير" العام 2000 بإنجاز "الاستقلال الثاني" العام 2005.

بالطبع لم يكن سمير فرنجية مجرد داعية سلام أو محايداً. فهو منحاز بتطرف وعناد، إلا أنه فهم السياسة بوصفها إرادة خلاقة للمبادرة، وتفكيكاً لكل استعصاء. بهذا المعنى، كان أكثرنا استعداداً للتنازل وميلاً لأي تسوية قائمة على شرط إعادة النصاب للدولة والوئام بين المواطنين، أو كما كان يردد "تثبيت الشبكة الأمان" التي تصون جوهر الفكرة اللبنانية: العيش معاً.

مات سمير فرنجية اختتاماً لحقبة ابتدأت من وعود "الطائف" وازدهرت في "ثورة الأرز" وانتهت في خيبات "الربيع العربي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها