الإثنين 2017/04/10

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

أندية الكتب القاهرية: نحن القراء.. فاعفونا من الشخصيات "الشعبية"!

الإثنين 2017/04/10
أندية الكتب القاهرية: نحن القراء.. فاعفونا من الشخصيات "الشعبية"!
لم يكن ممكناً تفهم غضب عضوات "البوك كلوب"
increase حجم الخط decrease
خضت خلال الأسابيع القليلة الماضية تجربة، كانت الأولى لي منذ عرفت طريق نشر الكتب والتعامل المباشر مع القراء، وهي تجربة مناقشة كتابي مع دائرة محدودة من القراء، ونخبة غير تقليدية، تتعامل مع الأدب وفق منظورها وتصورها الخاص عن الكتابة واللغة والأسلوب. إذ دعيت إلى مناقشة روايتي مع ثلاثة من أندية كتب الناشطة في القاهرة، تشارك فيها قارئات مثقفات، معظمهن في مناصب مرموقة في حياتهن العملية، أو تقاعدن، وبعضهن وثيقات الصلة بالأدب، فإحداهن أستاذة أدب في جامعة مصري. هنا تغلب النظرة إلى الرواية المصرية، بمنطق الحذر مما قد تتناوله من أحداث أو قصص قد تعري المجتمع، أو تسيء إليه.

التجربة كانت مثيرة، خصوصاً أن الجلسات معي قسمت إلى ثلاث مناقشات، معظمها في محيط سكن عضوات أندية الكتب. فذهبت للمناقشة الأولى في ضاحية الشيخ زايد، إحدى ضواحي محافظة الجيزة، المعروفة بكونها حي الطبقة الثرية. فيما كانت المناقشة الثانية في قلب ضاحية الزمالك، وهي ضاحية معروفة أيضاً بانتماء معظم قاطنيها إلى طبقة تمت بصلة للنخبة الحاكمة قبل يوليو/تموز 1952، بعضهن زوجات رجالات هذه الطبقة، أو تلك التي حكمت مصر، وأخريات ينتمين إلى أسر مرموقة الثراء أو المكانة الاجتماعية. أما المناقشة الثالثة، فكانت في حي مدينة نصر، وفي أحد مراكز التسوق المعروفة في الحي "سيتي ستارز".

معظم تصوراتي عن المناقشة، ومحاورها، كانت تتحدد في أنهن قارئات غير محترفات، بمعنى أنهن لن يركزن على أسلوب الكاتب، أو اللغة، أو المجازات الأدبية التي يتطرق إليها، إنما سيمنحن تركيزهن كله للحبكة وبنائها، أو سيركزن على شخصية من الشخصيات. بهذه التصورات وغيرها مضيت إلى المناقشة الأولى، لكنني تلقيت في الأولى إشارات من القارئات عضوات نادي كتاب الشيخ زايد، تستنكر موضوع الرواية الذي يناقش الإشكالية القبطية في مصر، زمن الثورة وما قبلها. أعربت عضوات النادي عن استنكارهن من أن يتطرق عمل أدبي إلى هذه القضية كما طرحته في كتابي "إيقاع"، بل أعربت قارئات عن صدمتهن الشديدة من أن الأقباط المصريين ما زالوا يعانون بحسب ما ورد في سردي الروائي. كان السؤال الذي تردد أكثر من مرة خلال هذا اللقاء هو: هل الوقائع التي سردتها في عملك حدثت فعلاً؟

يحاول الروائي أن يسبغ على عمله سمة الواقعية، وذلك بِحَبك تفاصيل القصة قدر الإمكان، ولا تكتمل الخدعة الروائية، إلا حينما يزودها صاحبها بكافة التفاصيل المتخيلة، التي تعطيها نسقاً واقعياً، لكنه في النهاية من صنع الخيال. واحترت في إقناع عضوات "البوك كلوب" بهذه الإشكالية، وبعضهن أصرّ على أني لا أقول الحقيقة، وأناور كي أخفي أن الرواية مستمدة من الواقع. ووددتُ لو أقول لهم ما يقوله ميلان كونديرا عن فن الرواية، وهو أنها لا تفحص الواقع، بل الوجود، والوجود ليس ما جرى، بل هو حقل الإمكانات الإنسانية. يرسم الروائيون خريطة الوجود في أثناء اكتشافهم هذه الإمكانية البشرية، أو تلك، وهذا لا يعني أن الرواية تجري في عالم واقعي، أنها لا تكتشف وجود الإنسان المصري الذي عاش هذه الأحداث الواقعية التي جرت من حوله في زمن الرواية.

المناقشة في الزمالك كانت أشد سخونة، وأكثر هجوماً عليّ. ذهبت فئة من عضوات النادي في الحي الراقي، إلى اتهامي بالحصول على منحة أوروبية (حصلتُ العام 2014 على منحة إقامة من المركز الثقافي السويسري في القاهرة "بروهيلفتسيا" للعيش والكتابة مدة 3 أشهر في مدينة فنترتور السويسرية)، كي أكتب عملاً أدبياً أشوه فيه سمعة مصر. بل إن السيدة صاحبة الاتهام ربطت بيني وبين نجيب محفوظ الذي نال نوبل بعدما ازدرى الأديان في روايته "أولاد حارتنا" على حد زعمها.

ولم يكن هذا هو الهجوم الوحيد الذي تلقيته، بل قالت أستاذة الأدب الجامعية، إني عبثت بسيرة الخديوي إسماعيل في روايتي، استشهدت برواية "الرجل في القلعة العالية" للروائي الأميركي فيليب ديك، الذي تخيل أن الحرب العالمية الثانية انتهت بانتصار هتلر، وبغزوه للولايات المتحدة الأميركية. فقلت إن الروائي من حقه أن يعبث بالحقائق التاريخية، ويخلطها، ويضلل قارئه، لأن الرواية في النهاية لعبة شطرنج، بين الروائي، والقارئ، وحينما يتواجهان، يضع كل منهما منطق اللعب، ويتحركان وفق هذا المنطق. لم يكن المثال الذي استشهدت به كافياً لإقناع سيدات النادي، بل إن بينهن من هاجمت كتابتي عن شخصيات شعبية، لا تنتمي إلى واقعهن النظيف، الراقي، فقلت في حماس: الرواية فيها أيضاً شخصية سيدة فاضلة ثرية مثلكن، هي بطلة الحبكة، فردت إحدى عضوات النادي: لكنك لا يجب أن تكتب عن هذه الشخصيات الوضيعة، هم لن يقرأوا أعمالك، نحن من نقرأ لك، وعليه يجب ألا تكتب عنهم، ولا تضع على ألسنتهم هذه الألفاظ الخارجة التي تزخر بها فصول هذه الشخصيات.

لم يكن ممكناً تفهم غضب عضوات نادي "البوك كلوب" في حي الزمالك، وخمنت أنهن لا ريب قد مررن كثيراً على كتابات نظيفة، تجري أحداثها وسط حدائق غناء، وأبطالها شخصيات مستقيمة حسنة السيرة، طيبة اللسان، لا يلفظون شتيمة أو كلمة جارحة، وأدركت أن من العبث أن نحاكم بعض القارئات على تصورهن عن الأدب. تذكرت نجيب محفوظ الذي كتب عن "حميدة" في زقاق المدق، وعن "زيطة صانع العاهات"، عن الألفاظ الخارجة التي أجراها نجيب محفوظ على لسان "المعلم كرشة"، في سورة غضبه البالغة، وغيرها من الأعمال التي تناول فيها محفوظ شخصيات من قاع المجتمع المصري، ورصد وجودها، وانكسارها، وانحطاطها، ومنها شخصية "محجوب عبد الدايم"، وأدركت كيف تسببت موجات من الكتابة المعدة خصيصاً لنخبة من المجتمع، في إفساد التصور العام عن الأدب ودوره. وخرجت من تجربة "البوك كلوب"، مدركاً بأن صراع الروائي مع قارئه ورغبته في قراءة عمل مصقول بلا "ألفاظ خارجة"، سيستمر، وأن الكتّاب في مصر لن ينالوا بسهولة رضا سيطرة نخبة تمتلك قدرة شرائية هائلة، وتتحكم في ما تقرأ من كتابات نظيفة "متشفية"، وتستبعد أعمالاً جادة لا تتفق مع ذوقهن "الرفيع"، فيجري اختيار الكتاب أو العمل الأدبي، بالآلية نفسها لاختيار مكان راق، يطل على النيل، لتناول وجبة شهية، أو ترفيهاً باهظاً في "مول" تجاري أو "كمبوند" مسوّر، محمي من المتطفلين والفضوليين، أرباب الطبقات الأدنى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها