الجمعة 2017/03/10

آخر تحديث: 08:45 (بيروت)

"في فمي لؤلؤة" لميسون صقر.. رواية الغوص المتعدد

الجمعة 2017/03/10
"في فمي لؤلؤة" لميسون صقر.. رواية الغوص المتعدد
لا تذوب اللآلئ في الفم، مثلما أنها لا تتلاشى في ماء البحر،
increase حجم الخط decrease
لا تذوب اللآلئ في الفم، مثلما أنها لا تتلاشى في ماء البحر، ذلك الذي خلا من الصيادين التقليديين، وامتلأ بحقول النفط. الفم المتعطش للآلئ، عليه بالغوص في عمق البحر، فليس قرب الشاطئ إلا الزبد. اللآلئ في الفم حياة كاملة لا ترتضي النهايات، وعالم متجدد غير قابل للهدم. هذه اللآلئ "الطبيعية"، ليست مجرد خيالات يحلم بها الحالم (الذي ينثرها من فمه، في حلمه، والناس يأخذونها منه فإنه "قاضٍ يعظ الناس، والناس ينتفعون به"، وفق تفسير ابن سيرين)، ولا هي مجرد "كلام يضيء بمفردة واحدة" (كما في قصيدة محمود درويش).


في رواية "في فمي لؤلؤة" للكاتبة الإماراتية ميسون صقر (*)، تحل "المغاصات" محل الفصول، وهي "أسماء عامية لأماكن الغوص واصطياد المحار"، وفي مفتتح كل مغاصة من المغاصات الست في العمل، هناك عبارة مفتاحية، تفجّر المدارك وتفتح المدارات أمام التجليات العُليا لتلك اللآلئ التي تختزل الحياة وتختزن الوجود. ابن سيرين، ومحمود درويش من بين أصحاب هذه العبارات الناضحة بالدلالات والتأويلات. جلال الدين الرومي بدوره حاضر، ثم يأتي الكتاب المقدس، والقرآن الكريم، ليضفيا قدرًا من "القداسة" و"الخلود" على تلك اللآلئ، وكيف لا، والحور العين أنفسهن "كأمثال اللؤلؤ المكنون"؟

لقد أرادت الكاتبة أن تتيح في روايتها فتوحات أكبر وفضاءات أرحب للآلئ، التي تتمركز كمحور للكون تدور حوله الموجودات وتتعاقب دورات البهجة والشقاء والحياة والموت للكائنات، وتتحدث تلك اللآلئ عن ذاتها في حقيقة الأمر، بدون صوت، أكثر مما يتحدث عنها صيّادوها من الفقراء والمقهورين عادة (الذين قد يدفعون أرواحهم ثمنًا لها)، وأكثر مما يحكي مقتنوها من الأثرياء والملوك والنبلاء وأصحاب المتاحف وصالات المزادات.

بل إن لؤلؤة واحدة قادرة على تحويل "المتسول" إلى "أمير"، في لحظة ما، استثنائية، تنقلها الكاتبة في تقديم روايتها، نقلًا عن "روبرت براوننغ"، الشاعر والكاتب الإنكليزي (1812-1889): "هناك لحظتان في مغامرة الغواص، واحدة يكون فيها متسولًا وهو يستعد للغطس، وواحدة يكون فيها أميرًا حين يطفو حاملًا لؤلؤته".

غلاف الرواية، بصورة الممثلة مارلين مونرو متقلدة عقدًا من اللؤلؤ الأبيض وافر الحبّات، مع ابتسامة تتجلى فيها كذلك أسنان لؤلؤية ناصعة، يحيل إلى ذلك العناق الأزلي بين "اللآلئ" و"الجَمال"، فرهان الكاتبة دائمًا على تلك الجماليات، الظاهرة والكامنة، للآلئ الفريدة، تلك التي سحرت جميع شخوص الرواية، من صيادين وأصحاب مراكب يتقاتلون على اللؤلؤة الأم العظيمة، ونساء يتكالبن على التزين بها، وفتاة من العصر الحديث اسمها "شمسة"، تعد دراسة نظرية وعملية عن صيّادي اللؤلؤ، وتستدعي التاريخ من خلال حكايا أمها، وقراءاتها المعرفية والبحثية، وتخيلاتها الشخصية. هذه الفتاة العصرية، التي تستخدم الكمبيوتر والإنترنت وتؤمن بلغة العلم، اعترفت بوضوح لأستاذها بأن فتنة اللؤلؤ سلبتها عقلها: "تسلسلت الأشياء هكذا، وجريت وراء سرها، سر اللؤلؤ. بدأت أدخل المتاهة، متاهة الحب، والسر، والحياة. وددتُ لو كنتَ معي تسمع وترى. هل تعلم أن مارلين مونرو وضعت عقدًا من اللؤلؤ حول عنقها الجميل؟ مارلين مونرو رمز الغواية والإغراء تستعين باللؤلؤ لتثبيت الفكرة في الأذهان".
هذه "الجماليات اللؤلؤية"، إذا جاز التعبير، في النص الروائي، أخصب وأعمق من مقدرتها على خطف عين الرائي وقلبه "لحظيًّا"، فلؤلؤة واحدة قد تحمل في طياتها مئات الأعوام من المعاناة والدموع والدماء، وعشرات الحكايا والأساطير المسكونة بالأوجاع، وربما بالموت. تقول: "كأن للموت جمالياته هنا، مروحة تتهادى مع الموج، رحلات الموتى في الذهاب إلى القاع، الرحلة الأخيرة للغواص، يذهب فيها ولا يعود بلؤلؤة أو محارة، يذهب ليصبح حارسًا للمغاصات التي نبشت. تقول المغاصات: هنا كانت يد تقطع محارًا، لتأخذ لؤلؤًا لامرأة غريبة. لكن البحر رغم ذلك كان كريمًا، هم يأخذون لؤلؤه، وهو يقبل جثامينهم دون اعتراض. هل اعترض يومًا؟ كلا، لم يعترض، بل كان يحاورهم، كي تظل فيه أجسادهم".

بمثل هذه اللغة السحرية، السرية، يصير للبحر أيضًا حديثه الخاص، مثلما أن "اللؤلؤة" هي الصوت الأبرز في العمل الروائي، بوصفها البطلة الفعلية، وتتكشف تدريجيًّا من خلال تفاعلات الشخوص وأضواء اللؤلؤة وبوح الأمواج، عوالم منطقة الخليج العربي من خلال تصوير حياة صيادي اللؤلؤ البسطاء، ومكابداتهم مع الحرفة التقليدية التي امتهنوها على مدار مئات السنين، حتى بدأت في التلاشي في القرن العشرين، مع ظهور "اللؤلؤ الصناعي"، وسيادة عصر النفط، كما توضح الرواية في حدثها الختامي، إذ عاد "الصياد مرهون" إلى وطنه بعد سنوات من الاغتراب في الهند: "نظر مرهون أمامه، كانت المدينة مختلفة عما تركها، ما عادت هناك عرائش ولا خيام، بل بيوت وعمائر أسمنتية، كيف لم ينتبه وهو قادم لكل هذا التغيير؟ قال له الرجل: تأخرتَ سنوات وسنوات، يا النوخذة الجديد، تأخرتَ وتغيرنا".

في هذا العمل الروائي الزاخم، تقدم الكاتبة ميسون صقر ما يمكن وصفه بالجدارية التشكيلية، إذ تتجاور مشاهد بانورامية، تتمحور كلها حول صيد اللؤلؤ الطبيعي بالطريقة التقليدية، لكنها تنتمي إلى حقول متباينة. لكأن هناك مخرجًا للعمل، يصوّره بأكثر من كاميرا، ويختار في كل مشهد: أية كاميرا هي التي تنقل الصورة الرئيسية، فيما تظل بقية الكاميرات كخلفيات، أو تغيب جزئيًّا بعض الوقت.

هناك، على سبيل المثال، "شمسة"، الفتاة العصرية، التي تعد دراسة عن صيد اللؤلؤ، ولا تكتفي بالجانب النظري، فتعيش في خيالاتها قصص الصيادين القدماء وزوجاتهم، المليئة بالصراعات والخيانات والدم، التي ترويها لها أمها. هذه الفتاة، التي تسرد بعض الفصول، تمثل كاميرا الحداثة المطلة على الماضي بوصفه تاريخًا. وتبدأ الرواية بانبهارها بالعقد التاريخي في سحّارة أمها، ذي اللؤلؤات الساحرة، ومن ثم تحكي لها أمها عن تاريخ اللؤلؤ. وتنتهي الرواية بتنازل الأم عن عقد اللؤلؤ للمتحف، ليوضع في مكانه الطبيعي، فلم يعد محتملًا أن ترتدي الأم في رقبتها "تاريخًا للغبن والقهر".

في حين أن كاميرا أخرى تنقل، بالأبيض والأسود، بعض الفصول من قلب التاريخ ذاته، مصاحبة أجواء الصراعات الحمراء على الجواهر واللؤلؤة الأم العظيمة من داخل الأحداث الدرامية الملتهبة في عهد المعتمد البريطاني في الإمارة والحروب والقبائل المغيرة، وهذه الكاميرا الحية هي التي سجلت الوقائع الأبرز في العمل، وجسدت بحرفية قصة عشق "آمنة" لمرهون الصياد، وكيف أنها هربت من زوجها يوسف، الذي سرق اللؤلؤة العظيمة وسكت عن قتل الأبرياء المتهمين بسرقتها، لتذهب وراء مرهون إلى الهند، ومعها لؤلؤة الفتنة، التي تتأسطر حولها الأحداث، إذ يذهب يوسف وراءهما للانتقام، ويقتل آمنة، ثم يموت قتيلًا هو الآخر، وتنجو اللؤلؤة، ويعود مرهون إلى وطنه حالمًا بمعاودة الصيد من جديد بدلًا من التجارة، لكن في ظل ظروف أفضل وعدالة اجتماعية ومراعاة لأحوال الصيادين القاسية، حيث كانوا يعملون بالسخرة، ويتعرضون للتعذيب والقتل إذا لم ينفذوا الأوامر، لكنه يكتشف أن عصر اللؤلؤ قد انتهى إلى غير رجعة.

وهكذا، تتعدد الكاميرات والدفقات المشهدية المتتالية كموجات بحر متلاحقة، ويتسق هذا التكنيك مع ما تقترحه الكاتبة في عملها الكبير الصاخب، من غوص متعدد الأعماق من جهة، ومتعدد الأشكال من جانب آخر. "الغوص" هو الكلمة المفتاح، التي لم تستدعها الكاتبة من الأقاويل المأثورة، لكنها الطاقة السحرية التي تصل بها إلى ذلك "الما وراء" المراد من كل حكاية ومشهد وتفصيلة.

"في فمي لؤلؤة"، رواية ليس أكبر همها نقل الحدث، إنما الفلسفة الكامنة وراءه. لو أن صيادًا غطس وعاد بلؤلؤة، لكان أمرًا مكرورًا حال نقله حرفيًّا، لكن ما يستوقف الرواية أمام حدث كهذا، على سبيل المثال، هي تساؤلات من قبيل: ماذا قال البحر للغواص؟ ماذا بقي من جثامين من رحلوا في طيات المد والجزر؟ هل مع تحلل الخلايا الحية في المياه، تتحلل المشاعر الإنسانية والعواطف؟ هل اللؤلؤات المتشكلات في البحر، يتكونّ من بقايا الكائنات الذائبة، وأيضًا من هذه المشاعر؟


هناك مستويات متباينة الأعماق للغوص، في العمل الروائي المحتفي بالتأملات الإنسانية، وجدليات الفلاسفة، وإشراقات المتصوفة. مصائر البشر، يتم تقصيها بأناة واصطبار، من خلال ترصّد دورانهم الطويل حول اللؤلؤة "المركزية"، وصراعاتهم المتصاعدة بتشويق: "الكل يلهث وراء اللؤلؤة، يرى أنها ملكه، أنه صاحب الحق فيها، وللأسف كلهم مدّعون. مرهون، الرجل الوحيد الذي جلبها من قاع البحر وكاد يفقد حياته بسببها لم يتكلم، بل لم يهتم. مرهون، مالك اللؤلؤة، هل ينصفه الحلم أم النسيان؟ حكايات وحكايات كلها يختلف عند بداية الجزيرة والقتل لتنغمس الحقيقة في تراب الذكريات".

إنها اللؤلؤة الطبيعية، الحقيقة التي لا يقوى على امتلاكها أحد، فتبيت محفوظة في النهاية في درج من أدراج التاريخ، تطالعها العيون من كل حدب وصوب للتأمل، وتتعدد حولها الشروح والتأويلات. من أجلها، طرحت الرواية أشكالًا لا نهاية لها من الغوص، فهناك، على سبيل المثال، الغوص الفلسفي، والغوص الأسطوري، والغوص التاريخي، والغوص المجتمعي، والغوص النفسي، والغوص الحلمي، وغيره، وهناك دائمًا الغوص الجمالي، في أسرار اللؤلؤة، وكل ما/ ومن يتعلق بها، ويدور حولها، مهما نضح بالألم، على غرار مرهون: "بعض حكاياته ممتع، وبعضها مؤلم وإنساني، لكنه وهو يحكي تتسرب متعة غير الاكتشاف، متعة أن يتحدث شخص من الماضي، خفي لكنه ممتلئ بالإنسانية".

أما الغوص الشعري، فهو فاكهة الرواية، لما للكاتبة من رصيد لافت في هذا المضمار، ويتقطر الشعر ليس فقط من خلال المعزوفات الغنائية المنفردة، وما أكثرها، وإنما أيضًا من خلال لغة السرد، ومفارقات المواقف، بل وعبر فيوضات الحوار، كأن تقول الأم لابنتها التي تتساءل عن كيفية ارتداء الأم العقد، ذا التاريخ العميق والمؤلم، دون أن ينحني رأسها: "شرف لي أن أحمل تاريخًا للوجيعة يا حبيبتي".

هذه الشعرية "الخام" لدى الشخوص، هي الوجه الآخر للمحارات الطازجة المحتوية اللؤلؤات الحية، فإذا تحدث البحر، فهو بالضرورة شاعر هو الآخر: "ما لا تعلمه يا مرهون، أنني كبير وكريم لكم. أجسادكم حين تصل إليَّ بلا أرواحها، تظل شجرًا مائيًّا فيَّ دون أن أعترض. كم من جسد سُجّي هنا؟ العالم، الكون الذي يحتويني. أنا البحر العميق أعمق من مجرد بعض أجساد لا تحسب. أنا كون غاضب سخيّ يا مرهون. أنا البحر الذي لا أظنك تعرفه. أنا كون قائم بذاته، لي عوالمي وكائناتي ونباتاتي. أنت مجرد قاطع طريق سمحتُ له بسرقة بعض لؤلؤ مني".

 
(*) صدرت عن "الدار المصرية اللبنانية" في عام 2016، ووصلت مؤخرًا إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (فرع الآداب، الدورة الحادية عشرة، 2016-2017).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها