الأربعاء 2017/03/08

آخر تحديث: 11:42 (بيروت)

"باترسون": جارموش وقد قتل "العشاق" واستعاد شِعريته

الأربعاء 2017/03/08
"باترسون": جارموش وقد قتل "العشاق" واستعاد شِعريته
عودة للإيمان بالشعر الضال (غيتي)
increase حجم الخط decrease
عُرِضَ أخيراً، ضمن مهرجان السينما الأوروبيّة في بيروت، فيلم "باترسون" للمخرج الأميركي جيم جارموش. الفيلم أميركيّ في اللهجة والمضمون، وصُوّر كاملًا في الولايات المتحدة الأميركيّة، لكنه كان ضمن فعاليّات السينما الأوروبيّة لأنّ إنتاجه تم بشراكة ألمانيّة فرنسية، وبذلك أصبح جارموش أكثر المخرجين الأميركيين تأثُّرًا بالأدب الأوروبّي، ومُخرجًا لأفلام أوروبيّة.

تصل سينما جارموش في هذا الفيلم إلى منتصف عقدها الرابع، بـ12 فيلمًا روائياً طويلًا، وفيلمين وثائقيين، وبضعة أفلام قصيرة. إلّا أنّ المخرج-الشاعر الذي ألَّف "رجل ميّت" (1995)، لتحيا من خلاله سينما الويسترن وكتابات الشاعر وليم بليك، لم يعد يمشي بيننا. غاب جارموش "أغرب من الجنّة" (1986) و"قطار الغموض" (1989) عن جارموش "أزهار متكسّرة" (2005) و"حدود السيطرة" (2009)، رغم أنّ ظلِّه بقِيَ منسدلاً على معظم أعماله. وأفضل ما في سينما جارموش، حين كانت في أوجّها، كان ذاك المنحى الأدبي الحُرّ في رسم شخصياته، والمساحة السرديّة المفتوحة المعطاة للأحداث التي تمرّ بها. كأنّ أفلامه كانت تقوم على طموح كتابة روايات أدبيّة كبرى، تحمل تأثّره بالأدب الفرنسي، لا سيما كتابات بالزاك وشعر آرثور رامبو، إضافة إلى رابطها بالأدب الأميركي الحرّ في نيويورك الخمسينات. كانت لأفلامه طبقة أدبيّة متخفيّة تحت الطبقة الفيلميّة، في زي سيناريو يسيل متحرّرًا من الحبك السردي الكلاسيكي. يقول المخرج عن "باترسون": "هو تصوير (بورتريه) لحبٍّ رقيق بين شخصيات يتقبّل بعضها بعضاً. فيلم العشاق فقط يبقون أحياء، كان مماثِلًا‪،‬ نقاء الحب هو بتقبّل الأشخاص كما هُم".


قد يكون هذا صحيحًا من ناحية قيام الفيلمين على ثيمة الحب النقي بين شريكين. لكن، من ناحية الشكل الإخراجيّ والقيمة الفنيَّة، فشتّان بين الفيلمين. المفارقة في سينما جارموش، كما يحدّدها الناقد جوناثان روزنباوم، هي في قدرته على صنع أفلام تتشابه وتتناقض في ما بينها في آن واحد. عادةً، تزيد تلك المفارقة من امتياز أعمال جارموش، إلّا في فيلميه الأخيرين “العشّاق فقط يبقون أحياء" (2013) و"باترسون" (2016) حيث تسقط تكليفيّة (مانييريزم) الأوّل مقابل تقليليّة (مينيماليزم) الثاني.      

يقوم فيلم "العشاق" (الذي عُرِضَ  ضمن مهرجان السينما الأوروبيّة العام 2014) على عالمٍ يشابه العالم الإنساني، لكنه بشخصيات مصّاصي الدماء في زمن يشابه الزمن الحالي‪.‬ يعيش مصاص الدماء "آدم" في مدينة ديترويت الأميركيّة، في عزلةٍ عن العالم الذي ما زال يقطنه منذ مئات السنين، حتى انتهى ببغضه وكره سكّانه البشر. "حواء"، زوجته وشريكة سنواته المئوية، تسافر وحدها بعيدةً عنه، مستشرقةً في طنجة. حين تصل كآبة "آدم" الى تأمل مماته، تعود "حواء" لإنقاذ زوجها وإخراجه من خيبته الوجوديّة من طريق الحبّ.

رغم محاولة الفيلم السير بالرومانسيّة الأصيلة، أي الانجذاب نحو الفناء، ومزج الرغبة بالحب والموت، إلّا أنّ تركيبة "زوج مصاصي الدماء يتأمّل عالم الإنسان المنحط"، سرعان ما تصبح حيلة كتابة سطحيّة تُثقِل الفيلم بدلاً من أن تحمله. أزمة فيلم "العشاق فقط يبقون أحياء"، هي هشاشةٌ أدبيّة تقاربه من الكتب المصوّرة (كوميكس) أكثر من الرواية، وبسببها يصبح السيناريو أداة لبناء فيلمي محدود بسرد قصصي كأي فيلمٍ روائي آخر. وفي مقابل ما يقدمّه جارموش في أفلامٍ أخرى من شخصيات غامضة تربطها حبكة دراميّة غير صارمة، ثمّ إنسلال من تلك الحبكة وسياقة للأحداث داخل انسياب شاعري للوقت السردي، يفقد جارموش حبكته الكتابيّة أمام صورة مصاصي الدماء بالرغم من جاذبيتها. الإستعارة المشوِّقة بالزوجين كشاهدين على حال العالم الإنساني، تسقط سريعًا، وتصير حيلة دراميّة مفضوحة ومتكرِّرة. حين كانت الحوارات عند جارموش تزيد على السرديّة الكبرى سرديّات صغيرة، فإنها تبدو تخزينًا للبناء السردي العام ومحاولات لإخفاء سطحيّة كتابة الشخصيات، وخنقاً لغموضها. في "العشّاق"، لم تعد الشخصيات والأحداث، كما عهدناها سابقًا، محتوى لإبراز تعلّق جارموش بالأدب والشعر والموسيقى، بل بالعكس، يوظَّف الأدب والشعر والموسيقى كمكوِّنات فكاهيّة لتبرير نفسيّة الشخصيات وتحرّكاتها.


ليست كتابة جارموش المتميّزة وحدها ما يغيب في هذا الفيلم. فشركاء سابقون في صنع أفلامه الممتازة لم يعودوا الى جانبه، أهمّهم جاي رابينوويتز الذي قام بالمونتاج لستّة أفلام متتالية من أفلام جارموش من "ليلة على الأرض" (1991) حتّى فيلم شراكتهما الأكثر أناقةً في الإيقاع والسيل "حدود السيطرة" (2009). لكن هنا، مع جارموش، للمرّة الأولى مونتير جديد، هو أفونسو غونسالفيز الذي ذاع صيته من خلال حياكته لإيقاع الموسم الأوَّل من المسلسل التلفزيوني طترو ديتكتيفز". كما أنّ "العشّاق" هو الفيلم الأوِّل له في تقنيّة التصوير الرقمي التي تقترح تشكيليّة صوريّة مختلفة عن تلك التي ترسمها حرفيّة التصوير على الفيلم الفضّي، مع مدير تصوير جديد هو يوريك لو سو، بعدما كانت سينماه تقوم في معظمها على شراكة التصوير مع الألماني الرائع روبي ميولر، ثمّ الأميركي فريدريك إيلمز. ليس مستبعدًا أن تكون كلّ تلك العوامل الجديدة على عالم جارموش، قد ساهمت في جرف أسلوبه الفيلمي، من دون ضبطٍ للخيارات الفنيّة، نحو تشكيليّة مبالغة في التكليف، حتّى الإقتراب من باروكيّة غير مقصودة في التصوير والإيقاع، ما يذكِّر أحيانًا برفاهيّة لقطات المخرج الإيطالي فريديريكو فيلّليني. وبينما تجعل تلك الرفاهيّة الفيلميّة سينما فيلّليني، هائمة، حالمة، مُفرِغَةً اللقطات من الثقل الزمني، فإنها لا تقدّم لسينما جارموش سوى فراغها. ومن الصعب على المخرجين أحيانًا التأقلم مع تقنيّات جديدة وخلق تواطؤ ملتحم مع شركاء جدد بعد سنوات من العمل مع مرافقين آخرين، وتبرز هذه الصعوبة في "العشاق فقط يبقون أحياء" كعثرة ملطّفة في سرديّة جارموش الفيلميّة.      

في فيلمه الأخير، "باترسون"، يعود أشهر مخرجي السينما الأميركيّة المستقلّة إلى التشكيل الأقلّي في الكتابة والإخراج. يسرد الفيلم أُسبوعًا من حياة شاعرٍ متخفٍّ في حياة سائق باص، وشريكته "لورا"، المقيمين في مدينة باترسون الأميركية. لا يشارك باترسون الشاعر، شعره المستوحى من نبض باترسون المدينة، إلّا أحيانًا مع لورا. التمثيل لأدام درايفر الذي يظهر، مثل شِعر باترسون، هادئًا، عابقاً بالمشاعر من دون بوحها لغولشيفتيه فراهاني، في دور لورا دائمة الحركة والغبطة. فيلم البحث عن الشعر داخل الروتين اليومي والحب الزوجيّ.


يرتبط الفيلم بالشِّعر من خلال تصويره أيّام الشاعر، تمثيله للإلهام الشعري، ورسم كتاباته على سطح الصورة الممثَّلة. محاولة جارموش الوصول إلى الشاعريّة بتجسيدها في الشاعر وحياته، هو فعلٌ جمالي يقرّب طموح جارموش السينمائي إلى طموح كبار السينمائيين، مثل جان كوكتو في "أورفيوس"، سيرغي بارادجانوف في "سايات نوفا"، وجاين كامبيون في "ملاك على مائدتي". لكنّ جارموش لا يلجأ إلى التشكيل السوريالي أو الفانتازيا، لبناء عالم شاعِره، بل يظلّ داخل الواقعيّة معظم وقت الفيلم، وعلى أطرافها أحيانًا، لأنّ شاعره لا يمشي طائفًا فوق الحياة، بل منغمسًا فيها. ذلك لأنّ الشعر الذي يُصاغ في الفيلم، هو من كتابة صديق جارموش الشاعر النيويوركي رون بادجيت، الذي كتب أربع قصائد للفيلم بعد قراءة السيناريو. وبادجيت من شعراء مدرسة نيويورك. يُعرف بأنه يستوحي ممّا يرصده في تفاصيل الحياة. لذا أصبح الفيلم الذي يتساءل من أين يأتي الشعر، تأمُّلًا في جمال وتفاصيل حياة سكّان المدن الصغيرة.

يقول جارموش أنّ "باترسون يحتاج للروتين لكي يسرح ضمن ديمومة متكررة للتنبّه إلى الشاعريّة في التفاصيل". يسرح "باترسون" داخل مشاهد متكرِّرة للباص الذي يدور في المدينة حتّى تبدو كالقابعة في زمن معلّق، تتداخل فيها ثقافات متعددة من دون تغيير دورانها، في فيلمٍ دوريّ تسيل فيه لقطاتٌ ومشاهد من واقع الحياة. دورة الباص اليوميّة، عودة "باترسون" إلى منزله كلّ يوم، من الطريق نفسه ونزهة الكلب الليليّة، كلُّها منمنمات واقعيّة متشابهة ودنيويّة متواضعة تلُفُّها الخفّة وبعض من الفكاهة الأنيقة حتى تأتي بضع لقطاتٌ تعبيريّة تأمُّليَّة لمشهدٍ مائي يظلُّ باترسون الشاعر يعود إليه ليفقد ذاته في لحظات من الأحلام المعلقة.

تحمل تلك اللقطات محاولة جارموش الارتقاء مع الواقع إلى حالة الإلهام الشعري. ورغم هزل تلك المحاولة، إلَّا أنّها تنجح في التملُّص من الواقعيّة نحو سرديّة غنائيّة تتغنّى بالشعر وتحمل الكثير ممّا يعنيه الأدب في سينما جارموش. كما تخلق عالمًا جارموشيًّا يقطنه شعراء، عمّال، سائقو باصات، فنّانون، موسيقيّون، مؤدّون.

يُكمِل جيم جارموش تجربته مع الصورة الرقميّة، لكن بتكاملٍ أكبر من فيلمه السابق. وكأنّه تصالح مع حدَّة الصورة الرقميَّة، وقَبِل الذهاب معها نحو التشكيل التعبيري في بعض اللقطات المقرّبة. يسترجع إلى جانبه مدير التصوير فريدريك إيلمز، للمرّة الرابعة، بتواطؤٍ في التشكيل الصوري، ويتلاحم أكثر مع أسلوب أفونسو غونسالفيز في التركيب السمعي بصري الذي يبدو مرتكزاً إلى الصورة المبطّأة في اللقطات التأمليّة.

ما زال جارموش الماضي غائباً عن سينماه. لكنّ "باترسون" هو العودة إلى الإيمان بالشِّعر الضال. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها