السبت 2017/03/04

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

"المنشق" الإيراني

السبت 2017/03/04
"المنشق" الإيراني
أصغر فرهادي لا يريد المنفى.. والغرب ينتظر انشقاقه
increase حجم الخط decrease
يقول كونديرا:
"قد ثرت ذات يوم حينما خضت في بعض الحوارات الشاذة.
     ـ هل أنت شيوعي سيد كونديرا؟
     ـ لا.. أنا روائي.
     ـ هل أنت منشق؟
    ـ لا.. أنا روائي.
    ـ أتساند اليمين أم اليسار؟
    ـ لا هذا ولا ذاك... أنا روائي"...

لكن كونديرا "الروائي" وجد في صفة "المنشق" ملاذه في العاصمة الفرنسية. فعدا موهبتة الخارقة في الكتابة الروائية، كان انشقاقه عن النظام الشيوعي، بروباغندا دائمة تسبق كلماته في المناسبات الثقافية والسياسية. وهو، على عكس مواطنه الروائي إيفان كليما صاحب رواية "حب وقمامة"، الذي فضل أن يكون كناساً في بلاده تحت الحكم الستاليني (الشيوعي) على أن يكون منفياً في باريس. وكونديرا وكليما شاهدان على أزمنة صعبة وعلى أنظمة قاسية، وما يجمع بين الروائيين أنهما يحاوران مواطنهما كافكا، لكن شهرة كونديرا جاءت على حساب كليما.

ذهب صاحب "خفة الكائن التي لا تحتمل" إلى باريس، وسلطت الأضواء عليه بوصفه هارباً من النظام التوتاليتاري. تخلى عن تشيكيته وكتب بالفرنسية. كان ضمن لائحة المنشقين عن الأنظمة الشيوعية (مع جوزيف برودسكي وسولجنتسين). ايفان كليما لم يكن منشقاً، وبقي يصارع روح براغ، ويكتب عن شوارعها ويعارض من الداخل بشكل ذهني اذا جاز التعبير...

بين كونديرا وكليما، الكثير من المناكفات. يشير كليما إلى أن كونديرا في الفترة التي بلغ فيها شهرة عالمية، كانت الثقافة التشيكية تقود صراعاً مريراً ضد النظام التوتاليتاري شارك فيه المفكرون الذين ظلوا داخل البلاد وأولئك الذين كانوا منفيين، وعانوا كثيراً وضحّوا بحريتهم الخاصة ووقتهم وأحياناً بحياتهم. خلافاً لكونديرا الذي لم يتضامن أبداً معهم ولم يشارك في هذا الجهد.

هذا المفتتح عن واقع الثقافة التشيكية في الزمن الشيوعي، يأخذنا إلى عوالم المنشقين في زمن الملالي والى السينمائي أصغر فرهادي تحديداً. فالأخير ربما لا يريد أن يكون كونديرا ويلجأ الى الغرب، ولا يمكن تشبيهه بكليما. فرهادي ساطع نجمه الآن، وجزء من سطوعه سياسي، فهو قَبِل الأوسكار بموقف يتماهى مع نظام الملالي ويستسهل الحديث عن نظام ترامب وفاشيته. يريد محاربة أنظمة القمع ولا يجرؤ على الكلام عن نظام الملالي حيث ذروة القمع. يتحدث عن الطغيان كأنه يتحدث عن الفضاء. تكلم في أكثر من مناسبة عن أميركا وكأنه يعيش في فردوس الحرية، يتماهى مع نظام بلاده لأنه يدرك مشقة الاعتراض، ولا يرفض الاوسكار لأنه يعي سحر الجوائز، وهو إيراني ويوظف المسرحي الأميركي أرثر ميلر في فيلمه. وبغض النظر عن جدارته السينمائية، فقد ساهم من خلال تصريحاته في توظيف فوزه بالأوسكار في مسار المناكفة بين "أميركا ترامب" و"إيران الملالي". وحين نقلت قناة "المنار" التابعة لـ"حزب الله" ما جرى في ذلك الحفل، كانت تريد القول بأن هذا هو دونالد ترامب العنصري وضد الاسلام، ولم تكن الاوسكار بالنسبة إلى "المنار" إلا منصة الواجب الجهادي. وهي (أي "المنار") غير معنية بالمسار الذي سلكه المخرج الإيراني حتى أنتج فيلمه. تريد كل شيء في اطار شعارات "الموت لأمريكا". ولا يختلف الأمر مع "الحرس الثوري" الذي اعتبر أن "جائزة الأوسكار تعكس قراراً سياسياً له تداعياته وأغراضه".

والنافل أن السينمائيين في إيران جعلوا السينما وسيلة للتعبير بدلاً من التلفزيون، لأنه يمكن من خلالها المواربة والتورية وإضفاء البُعد الذهني، خصوصاً أن نظام الملالي مشغول ومبتهج بابتكار شتى أنواع الصواريخ والميليشيات الشرق الأوسط، ومعني بمنع كل شيء يخص الحرية والتحرر، وحين يصطدم السينمائي بالملالي يكون مصيره المنفى كالسينمائي محسن مخملباف، أو السجن كالسياسي مير حسين موسوي.

... في مكان ما، يذكرنا أصغر فرهادي وبعض المبدعين الإيرانيين بتجربة الروائي بوريس باسترناك، الذي فاز بجائزة نوبل 1958 وأجبرته سلطات الاتحاد السوفياتي على رفض الجائزة التي منحته له الأكاديمية عن روايته "دكتور زيفاكو". فبعد يومين من علمه بنبأ حصوله على الجائزة، أرسل باسترناك برقية إلى الأكاديمية الملكية السويدية قال فيها: "أتقدم لكم بجزيل الشكر وأشعر بالكثير من التأثر والفخر، وفي الوقت نفسه يغمرني التواضع". غير أنه، بعد أربعة أيام من هذه البرقية، وإثر ضغوط هائلة من جانب الكرملين، كان على باسترناك أن يرسل برقية أخرى إلى الأكاديمية قال فيها: "أجد نفسي مضطراً لرفض هذه الجائزة غير المستحقة التي منحتموني إياها". وظلت هذه الرواية ممنوعة من النشر في الاتحاد السوفياتي حتى وصول ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم العام 1988 وسمح بنشرها فى ظل سياسة البريسترويكا.

التجربة الإيرانية مع الثقافة لا تختلف كثيراً عن التجربة السوفياتية، وحتى الصينية. هذه البلدان التي يقوم ماضيها على أسماء ثقافية تاريخية، في الشعر والرواية. في المرحلة الايديولوجية الشيوعية أو الدينية عاشت ما يشبه التصحر الثقافي، كثيرون حاولوا الإبداع وأنتجوا، وفي النهاية تعرضوا للنفي أو الرقابة وصولاً إلى الإعدام...

في المقابل، يحب الغرب المنشقين، ويحب توظفيهم في البروباغندا السياسية، في "الحرب الباردة" في الحروب على "الإرهاب" في تمجيد "ثقافة الأقليات". الغرب يحب المنشقين الى درجة أن الإنشقاق يصبح أهم من الإبداع. أما إيران والبلدان الإسلامية، فتحب ممارسة المنع الى درجة أنها تمنع كل شيء. الرقابة في إيران بحسب الروائي أمير حسن جهل تن ربّت مؤلفيّ الروايات الإيرانيين على الكتابة في الأماكن المغلقة، داخل البيت فقط. ولا يستطيع أحد الاقتراب من النافذة والنظر إلى الشارع، كما لو أنّه ليس هناك شارع ولا مدينة ولا ضجيج، بل لا وجود حتّى للجيران. وحتّى كلمة الرقابة نفسها خضعت بدورها إلى الرقابة، فلم يسمح لأيّ جريدة بأن تذكر هذا المصطلح حتى وقت قريب. وتستخدم السلطات المختصة عبارة تعني "التفريق بين الخير والشر". وبحسب الكاتب فرج سركوهي "الرقابة الرسمية والرقابة الذاتية التي تم فرضها من خلال أجواء الخوف ومن خلال تعرّض بعض الكتّاب للاعتقال والقتل والإبعاد، موجودة في إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود. لكن هذه الرقابة اشتدت خلال الأعوام الأخيرة، بحيث أنَّ معظم الكتَّاب الإيرانيين أصبحوا يمتنعون تمامًا عن نشر أعمالهم في إيران"...

وحتى أشهر الروايات الإيرانية التي ترجمت الى العربية، نجد ان موضوعها الرقابة والقمع، مثل "قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب" لـشهريار منديني بور ومضمونها أن كاتباً إيرانياً يريد أن يكتب قصة حب في إيران، والسيد بتروفتش الرقيب والمسؤول عن المطبوعات يراقب كل كلمة يكتبها، ويطلب إليه أن يعدّل الأحداث والمواقف والشخصيات بما يتناسب مع عادات وثقافة المجتمع الإيراني، فمثلاً تم حذف كلمة "مومس" من معجم اللغة الفارسية، واستُبدلت بـ"السيدة غير المحصّنة". ومنع السيد بتروفيتش الكاتب من كتابة عبارة "الأوراق تتساقط عن الأشجار وهي ترقص"، وطُلب إليه أن يحذف كلمة "رقص" لأنها تـُعتبر سوقية ومحرّمة. كما أن الرقيب يحذف عبارة "يولج سائق الدراجة النارية خرطوماً بلاستيكياً في خزان بنزين لشاحنة صغيرة" لدلالاتها الجنسية الواضحة.

أثر الرقابة نجده أيضاً في سيرة "أن تقرأ لوليتا في طهران" لآذر نفيسي. وفي السينما أيضاً، القمع على أشده. قبل فترة غير بعيدة، صدر حكم قطعي بالسجن على مخرجين إيرانيين، وهما جعفر باناهي ومحمد راسولوف، بعدما أدانتهما محكمة الاستئناف بممارسة أعمال ضد أمن الدولة والقيام بنشاطات دعائية ضد النظام العام. وقبل سنوات من ذلك، تم أيضاً إلقاء القبض وإساءة معاملة ممثلة شابة، ظهرت في أحد أفلام هوليوود بدور شريكة ليوناردو ديكابريو. فوجدت نفسها مضطرة إلى مغادرة البلاد.

فرهادي مشى في حقل الغام الرقابة، والأرجح أنه لو لم تكن سلطة الملالي راضية عنه، لكان مساره المنفى مثل مخملباف. والأرجح أن فرهادي لا يريد ان يكون في المنفى. في المقابل ينتظره الغرب أن يكون "منشقاً" لتزيد البروباغندا... في المحصلة، أن يحصل فرهادي على اوسكار، فهذا لا يعني أن السينما الإيرانية بخير في ظل الملالي... حتى إن استفاد بعض السينمائيين من القمع كمادة ثقافية يعبدون من خلالها نجوميتهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها