الخميس 2017/03/30

آخر تحديث: 11:23 (بيروت)

مبارك وساط لـ"المدن": حبي للحياة يغلب غربتي

الخميس 2017/03/30
مبارك وساط لـ"المدن": حبي للحياة يغلب غربتي
قراءة الواقع بعين شعرية هي التي تغلب لديّ
increase حجم الخط decrease
أصدر الشاعر والمترجم المغربيّ مبارك وساط مجموعته الشعرية الجديدة بعنوان "عيون طالما سافرت". من يقرأ ديوان من عشاق الشعر، يسافر في قصائده وصوره المشحونة بالدلالات واللحظات الحياتية الريفية والمدينية والثقافية والاغترابية والقصصية، هي قصصية لأنه يتفادى "التّجريد الشديد في كتابة القصيدة، وإن لم تكن النزعة السردية المذكورة هي السبيل الوحيد لتفاديه"، والارجح ان قصائد وساط تقدم نفسها بنفسها، باعتبار ان لكل قصيدة قراءة كما اللوحة التشكيلية. معه هذا الحوار...

- الذاكرة والريف والطفولة السهر والحانات الابطال النجوم والجد، عناوين تحضر بقوة في قصائدك، لماذا هذه الأجواء بالذات؟ - تقول: "كنت غريبا في تلك المدينة"... هل لا زلت تعيش هذا الشعور في المدن؟
* قصدي حين قلت "كنت غريباً في تلك المدينة" هو أنّي كنتُ حديثَ العهد بالمجيء إليها، وأنا أقصد مدينة محدّدة (قد لا توجدُ إلّا في خيالي). أمّا سؤالك هذا فيتجاوز هذا المستوى الأولي الذي أشرتُ إليه، ليطرح مسألة أعمق بكثير، وهي مسألة مدى الإحساس بالغربة في مدن اليوم، والتي لا تبخل علينا جميعاً، في الواقع، بما يُغذّي مثل هذا الإحساس.

في اعتقادي أنّ تيمة الشعور بالاغتراب بين أسوار المدينة قد تكرّرتْ كثيرا لدى شعراء من أجيال سابقة، بل وحتى في الرّواية والقصّة القصيرة (عند يوسف إدريس، تمثيلاً لا حصراً). وفيما يخصّني، فلا شكّ أنّي، في لحظات معينة، أشعر بتلك الغربة، لا في المدينة وحسب، بل في الدّنيا بأكملها. ولحسن الحظّ، فإنّ تلك اللحظات تبقى عابرة، وحتّى لو حدث أن احتدم لديّ ذلك الشّعور، فحبّي للحياة يَتغلّب عليه، وإن كان لا يُلغيه.

أما عن القرية، فهي حاضرة لديّ في الذّاكرة أكثر منها في حياتي الفعلية. زياراتي للقرية التي أحببتها منذ الطّفولة – علماً بأنّي كنتُ أزورها رفقة العائلة خلال العطلة الصّيفيّة فحسب – زياراتي تلك كانت قد قلّتْ إلى أنْ أصبحتْ نادرة، فنادرة جدّاً، فمنعدمة. ولكن يبقى لحضور القرية وناسها الذين عهدتهم في الماضي وهجٌ خاصّ، لا بدّ أن يتجلّى في بعض من قصائدي.
وعن الذّاكرة والطّفولة، فإنّ حضورهما قويّ لدى كلّ فرد، ولا يُمكن استبعادهما كلّيةً في ممارسة إبداعية لها علاقة وطيدة وصادقة وأصيلها بذات صاحبها. وهكذا، فذكرى الجدّ، لديّ، ذات هالة خاصّة، وأعني هنا جدّي لأمّي، وهو الذي عرفته، امّا جدّي لأبي فقد مات في وقت مبكر جدّاً. كان جدّي ذاك، بحكاياه وبشاشته وضحكته العجيبة، أكبر من أن يغيب من ذاكرتي بشكل تامّ، وحسنٌ أنّ الأمر هكذا.

وبخصوص السّهر والحانات، فقد كانت، في زمن مضى، من صميم حياتي. والآن، لم يعد الأمر كما كان عليه، وإن كنتُ لم أصبح ناسكاً... طبعاً!

- في مكان ما تبدو ساخرا ومتهمكا كما هو الحال في قصيدة "رموز الصيرورة"، اذ اردت أن تتهكم على الشعر، اي جانب تتناول منه؟
 * أعتقد أنّ القصيدة التي أشرتَ إليها هي واحدة من قصائدي القلائل التي يحضر فيها عنصر السّخريّة. والسّخريّة فيها ليست من الشّعر على وجه الخصوص، وإنّما من التّقعَر المفاهيمي الذي نجده في كتابات بعض ممارسي التّفلسف، والذي لا تجد له مثيلاً لا عند دولوز ولا حتى عند فوكو، وذلك التقعّر إنّما هو لَوْكٌ للكلام بشكل يؤذي صاحبَه وقارئه... وقد تجد قصائد فيها ضرباً من التهويل شبيهاً بما أشرتُ إليه، ولكنّها لم تعد هي الغالبة على المشهد العربي لحسن الحظّ.

- هل يمكننا ان نصفك بالسوريالي، ام ان السوريالية أصبحت كلمة مطاطة مثل كلمة حداثة وغيرها؟ وهل شعرك يتماهي مع أعمال الرسام ميرو؟ وألا تلاحظ انك في جانب من قصائدك تكتب قصة قصيرة جدا؟
* إنّك تُعبّر عن رأيي أيضاً حين تقول "إنّ السّورياليّة أصبحت كلمة مطّاطة مثل كلمة حداثة وغيرها". بالفعل، فالأمر كذلك. وأنا لا أعتبر نفسي سورياليا وإن كنتُ أحبّ شعر السورياليين الفرنسيين مثلا. قراءاتي لم تتوقّف في حدود زمانهم ولا إبداعاتهم.

خوان ميرو هو من الفنانين المحببين إليّ، ولذا تجدني أذكره بالاسم في قصيدتين من مجموعتي الأخيرة، "عيون طالما سافرتْ". وأنا لا أتماهى معه، بكلّ تأكيد...

كما أن لديّ نزوعاً إلى جعل بعض قصائدي ذات طابع قصصيّ، ولهذا التوجه جذور في تراثنا العربي، كما أنّه نابع أيضاً، فيما أتصوّر، إلى تفادي التّجريد الشديد في كتابة القصيدة، وإن لم تكن النزعة السردية المذكورة هي السبيل الوحيد لتفاديه.

- تدرّس الفلسفة بحسب ما ورد في سيرتك، كم تحضر الفلسفة في شعرك، وهل تحاول قراءة الواقع والطبيعة بعين فلسفية أم شعرية؟
* نعم، لقد درّستُ الفلسفة في ما مضى. وحتّى حين أكتب شعراً، فلا أعتقد أنّ ثقافتي الفلسفيّة تنمحي من وجداني، أمّا كيف تحضر الفلسفة في شِعري، فمن الصّعب أنْ أتبيّن ذلك بنفسي. في الواقع، أعتقد أن قراءة الواقع بعين شعرية هي التي تغلب لديّ، نظراً للحضور القويّ للخيال لديّ، أمّا مدى فاعلية ثقافتي الفلسفية في تمثّلي للواقع كما يتجلّى في قصائدي، فليس محدّداً في ذهني.

- كيف تصف المشهد الشعري في المغرب؟
* في المغرب، هنالك ولا شكّ شعراء متميّزون جدّاً، وهنالك أيضاً سائر الفئات الأخرى من قارضي الشّعر. في فترة ما، كان الشّعر، عند الكثير من الأسماء المعروفة، مجرّد ممارسة لغوية ذات خلفيات إيديولوجية وادّعاءات نضالية (من باب التوهم، غالباً)، وإن لم تنطفئ تلك النزعة، فإن ضحالتها قد أصبحت واضحة جدّاً. وبالمقابل فقد انتعش الاستكشاف الشعري على يد شعراء عديدين، وأتفادى هنا ذكر الأسماء، فهي عديدة...

- هناك موجة في العالم العربي وهي ان معظم الشعراء بدأوا يكتبون الرواية، كيف نفسرها وأين أنت منها؟
* أعتقد أنّ هذا عاديٌّ جدّاَ. وعلى اعتبار أنّ الرواية ليست من صنف الشّعر، فيمكن أن تكونا مكملتين لبعضهما عند هذا الكاتب أو ذاك. والمزاوجة بين الكتابة الروائية والشعرية ليست بالأمر الجديد، ففي الأدب المكتوب بالفرنسية، على سبيل المثال، نجدها لدى الكثيرين: أذكر، مثلا، فكتور هيغو، من القدامى، وبليز ساندرار، ثم ريمون كونو، محمد ديب، كاتب ياسين... من اللاحقين...

وإن كانتْ هذه لوثة – ولا أحسبها كذلك- فقد لحقتني أيضاً. أنا، بدوري، أكتب رواية، منذ وقت طويل نسبيّاً، أعني أني أنجزها ببطء، وهذا لا يضايقني...


من الديوان
يَغمسون رأس المهرّج
نعم، تمّ الأمر كما فكَّرْتِ فيه
فقد ذهبتُ إلى المصبنة
وجلبتُ ثيابنا
وفي طريق العودة، رأيتهم يغمِسون رأس المهرّج
في رغوة الضّحك التي كانوا
قد ملؤوا منها جردلا كبيرا
وها أنا هنا، أُهْدِيكِ – فيما أنتِ تهيّئين 
الغداء–
البَارثينون وقوسَ آخيل ومُبرهَنةَ أقليدس
وجبلَ البارناس ومخطوطةً لإسخيلوس
حتّى تكونَ لكِ آثارُ خُطى
على ترابِ حدائقِ 
اليونان القديمة
– أنا، حديقتي قَدَمِي وأظفارُها 
أزهارُها–
وبعد هذا سأُردفُكِ خَلْفي على 
درّاجتنا المُطهَّمة
ونمضي نحو بيتنا القديم الذي كنّا
قد سكنّاهُ زمناً ثمّ تركناه
وكنتُ، كلّما سكِرْتُ تحت سقفه،
تُشعشع عظامي من تحت الجلد واللحم، بوميضٍ
منتظم أصفر وأخضر وأحمر
وذاك كان يُضْحِكُنا كثيراً إذْ يُذَكِّرُنا
بلعبة البلياردو الكهربائيّ!
الآن، بعد أن ندخلَ مُجدّداً إلى ذلك البيت
فهو قدْ يُباغَتُ كما
تقولين، لكنْ كُونِي 
متيقّنةً مِنْ أنّنا سنشعر في غُرفه بنفس 
الإعجاب بِـهَـيْـنَـمَـة النّمال التي
خَلْف أحد جدرانه
كانتْ دائماً تتشكّى من الأرق!
بل إنّه سيحتضن بحنوّ حتّى درّاجَتَنَا 
ويُعامِلُها ككائنةٍ حلَّتْ فيها رُوحُ 
إلهةٍ قديمة
كائنةٍ جِسْمُها من معدن 
ولِمِقْوَدِهَا 
بَرِيقْ!
………………….
أسلاف
في هذا البيت، في زمن قديم، تطايَرَ شَرَارٌ كثير
من جَسَد جدّ، بعد أن ارتطمَ رأسُه
بسقف قبّعته
سكّانُ هذا البيت، من أجدادٍ أكثر قِدَماً
كانُوا شديدِي التّديّن
واتّخذوا إِلَهاً البُركانَ المقدَّسَ الذي
أصبح في مكانه الآن
فُرْنٌ كبير
أنا، خلال هذه الليلة، في هَذا البيْت نفسِه
أستمرُّ في كتابةِ تاريخ السُّلالة
فَيَدْلِفُ إلى غرفتي ناطقونَ باسْمِها من كلّ
العُصور
يتجمّعون في جانب من الغرفة، فتميلُ تحت ثِقَلهمْ
يركضون إلى الجانب الآخر، فيشعرون
أنّه يَمِيدُ بهم
وهكذا، أنا أُؤَرِّخ لهمْ
وَهُمْ يُمَرْجِحُونَنِي
………………….
أنا الآن…
 
أنا الآن في قرية جدّي
أقتعد كرسيّاً صغيراً تحت حائط الجامع القديم الذي
يتدلّى حواليه صبّار كثير
وثمّة كلاب تقضي قيلولتها في ظلّ كومة تبن
فيما تتحادث جماعة المقامرين تحت شجرة
خلف الجامع
بأصوات خافتة ومتوتّرة
عن عبد السّلام بائع الكَيف
وكيف اعتقله الدّرك في الصّباح
وكيف كانت الومضات تنثالُ من شَيب رأسِه
قويّةً
وتتناثر في الجوّ متأجِّجةً
أتُرَى كان ذلك من خوفٍ شديد
أمْ من حِقْدٍ عنيف 
أمّا أنا فكنتُ أيضاً قدْ قامرتُ ذات صباح
بحصان صغير
وسَاعَتَها كانتْ أنغامُ جازٍ تتنامى 
في أذني اليمنى
وفي اليُسْرى كان يُسْمَعُ حدّادون
وهم ينهالون بمطارقهم على
حَدَواتٍ وخسرتُ حصاني
الصّغير
وها أنا تحت حائط هذا الجامع القديم
أتابع قراءة رواية
روايةٍ رهيبةٍ عجيبٍ أَمْرُهَا
ياه!
ما أكثر قتلاها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*“عيون طالما سافرتْ“، هي المجموعة الشعريّة الجديدة للشاعر المغربي مبارك وساط، وقد صدرتْ عن “منشورات بيت الشّعر في المغرب“، في اواخر يناير 2017، في 88 صفحة، وتتضمّن 48 قصيدة، وهي مجموعته السّادسة. آخر مجموعة كانت قد صدرتْ له قبلها : “رجلُ يبتسم للعصافير” (منشورات الجمل، 2010)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها