الأربعاء 2017/03/29

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

الفنانون اللبنانيون.. لا يتأثرون بأحد؟!

الأربعاء 2017/03/29
الفنانون اللبنانيون.. لا يتأثرون بأحد؟!
ثمة سلوك رائج في الوسط الثقافي البيروتي، وهو إنكار التأثر،
increase حجم الخط decrease
ثمة سلوك رائج في الوسط الثقافي البيروتي، وهو إنكار التأثر، ذلك، أن شغيلة الكتابة والفن غالباً ما يتجنبون الكلام حول مقروءاتهم ومشاهداتهم، بغية التكتم على صلتها بهم. إذ إنهم  يقدمون أعمالهم بالإنطلاق من كونهم قد أنتجوها من تلقائهم، الطاهر من أغيارهم، أو بالإستناد إلى كونهم قد صنعوها من لا شيء (ex-nihilo). فهُم، وعلى طول نشوئهم وتشكلهم واستوائهم، لم يتأثروا بأحد، ولم يتعقبوا أسلوباً، ولم يلاحقوا منظوراً، ولم يختاروا طرقاً محفورة، ولو بشكل طفيف، أمامهم، بل حلّوا هكذا أفذاذاً، ومنقطعي النظير بلا أي سيرورة، أو مدار.

يجيء هذا السلوك مسبوقاً بآخر، وهو المجاهرة بالتأثر بوصفه رجوعاً وإرتداداً دائمَين إلى مرجع، أو بالأحرى إلى علاّمة، لا يمكن الظن به، ولا حتى قراءته بمقاربة مباينة. الأمر، الذي يجعله شبيهاً بالمعبود. على أن السلوكين، في هذا السياق، يشتركان في الإعتقاد بأن التأثر بمثابة ضرب من ضروب المماثلة أو التقليد، وعلى هذا الأساس، يحددان فعلهما اتجاهه، فإما أن يجري إعلانه، والإعتراف المفرط فيه، أو يجري إنكاره، وكبته. بالتالي، يجد أصحاب السلوكين في التأثر سبيلاً إلى الأسر. وبعضهم يغتبط بقيده، ويتقي به، وبعضهم ينزعج، وليتخلص منه لا يختار سوى التستر عليه. فلا إختلاف في استجابة هؤلاء للتأثر، بحيث يعتبرون أنه يفيد بأسرهم، الذي إما يكون مقبولاً، فيقوم بالمماثلة والتقليد، أو مرفوضاً، فيرتكز على نفيهما.

تشير المجاهرة بالتأثر إلى تكريس موضوعه كتمثال، من سماته أنه كامل وجامد، لا مسعى إلى مشابهته ونسخه فحسب، بل إلى دفع أي كان إلى ذلك، إلى التظلل به، بلا أن يكون متاحاً له إضافة أي شيء إليه، أو نقل مطرحه، أو تبديل وجهة العين صوبه حتى. أما إنكار التأثر، فيدل على ترسيخ موضوعه كتمثال أيضاً، لكن عبر إخفائه بعد الكدر من وجوده، وعدم الحديث عنه سوى كسرٍّ نرجسي، أو كمفتاح خلق، أو حل للغز. فناكر التأثر قد يفصح، وبصوت خافت، عن موضوع تأثره، خائفاً من أن يسمعه أحد، فيقع على بطانته، ويفشيها. إذ يخفي ذلك الموضوع. وفي الوقت عينه، يقصيه من الذكر، لكي يحتفظ به لذاته، على إعتبار أنه عماده، أو ملكيته. المجاهرة بالتأثر وإنكاره، هنا، ينمان عن إعتبار التأثر ممارسة لتحويل موضوعها إلى تمثال لعبادته أو لإبعاده، للدوران في ظله أو لتحطيمه، للإقتداء به بنسخه علانيةً أو لاستدخاله بإلغائه سراً.

على ان إعتبار التأثر فعل مماثلة وتقليد، يشكل نوعاً من النقد، الذي يوجهه ممارسوه إلى أغيارهم بنِيّة الكشف عن حقيقتهم. فما أن يشاهدوا عملاً فنياً، أو يقرأوا نصاً، حتى يأتوا على تعيين مراجعه، أو بالأحرى رفع تماثيله، بحيث أنهم، وعندما يقولون لغيرهم، وعلى وجههم إبتسامة المكيدة: "أنت متأثر بكذا". فهذا، بحسبهم، يودي إلى تعريته، أي رميه في العراء، لا سيما أنهم يعنون بعبارتهم: "أنت تحاول أن تقلد أو تعمل مثل كذا". ذلك، أنهم يجدون في التأثر تهمةً، لا بد من دحضها كإشاعة، أو التنصل منها، أو الإقرار بها. فنقدهم، في هذا السياق، ليس نقداً للمرادفة بين التأثر والمشابهة والإقتداء أو النسخ. بل يسعى إلى إبراز موضوع التأثر، أو تمثاله، بنِيّة نقل ناكره إلى معترف فيه، ومحطمه إلى مطيعه.

دائرة واحدة، مركزها الإعتقاد بأن التأثر ضرب من المماثلة والتقليد، وعلى محيطها، ثمة مَن يجاهر به، وثمة مَن ينكره، وبينهما، هناك نقد مزيف، أو بالأحرى إنتقاد منحرف، يحمل الناكرين إلى معترفين، والعكس أيضاً. إنها دائرة بائسة للغاية، لأنها، ببساطة، وبإقتضاب، تقيس التأثر، بعد تحويله إلى إنتاج تماثيل، بثنائية إعتراف وعبادة-انكار وتهديم، ولأنها تنتج شغيلةً يقدمون أعمالهم مقتنعين بأنها مخلوقة من لا شيء، ومن عندياتهم، التي لا يشوبها أي أثر من غيرهم، حتى تكاد تساوي العدم. فهذه الدائرة لا تنتج المتأثرين بل المأسورين فقط!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها