الثلاثاء 2017/03/28

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

لماذا احتفلت مدينة باليرمو بسمعان خوام؟

الثلاثاء 2017/03/28
increase حجم الخط decrease
فجأة بات سمعان خوام فناناً تشكيلياً. رحنا إلى معرضه الشخصي الأول عام 2012، في غاليري جوانا صيقلي (الجميزة)، من غير يقين أن الأمر جديّ إلى ذاك الحد الذي نقرّ به أن صاحبنا الشاعر الذي خاض ذات مرة مغامرة "الغرافيتي" على جدران نهر بيروت، هو فنان تشكيلي وأن ما اقترفه هو لوحات تستحق صفتها. لكن سمعان باغتنا وأدهشنا. كان المعرض أشبه بإعلان مدوٍّ عن مشهد كثيف وأنيق ونابض بتعبيراته، مشهد لفضاء سخي من اللوحات التي تفرض سطوتها البصرية.

بدت لوحات خوام خصبة وممتلئة، أشكالاً وألواناً وملمساً، على أناقة مغرية للنظر. والأهم أنها من يد وعين متمكنتين ومحترفتين. عوالم شخصية ومنزلية تتداخل فيها الكوابيس كما اللمحات المرحة والساخرة، حيث الكائنات والأشياء هي "استعارات" كما في المخيلة الشعرية، مقتضبة ومشحونة. كما لو أن سمعان يعيد الاعتبار لتصويرية تشكيلية أهملها فنانو اليوم.

في السنوات الخمس المنصرمة، أقام معارض فردية عدة، آخرها كان في تشرين الأول الماضي، بمشاركة مع الفنان فادي الشمعة، في غاليري روشان (وسط بيروت). العوالم ذاتها بصفاء أكبر، في معالجة أكثر رهافة للمساحات اللونية المجردة. التأمل (الصمت) هنا بات متوازناً مع السرد.  

ثم، وعلى امتداد شهر شباط الماضي، تحتفل مدينة باليرمو الإيطالية بالفنان سمعان خوام. مساحة عرض شاسعة وتكريم من عمدة المدينة واحتفاء استثنائي بأعماله، بالتزامن مع معرض باليرمو السنوي الدولي.

فجأة أيضاً، نكتشف سورية سمعان خوام كهوية مستعادة منذ بداية الثورة.
عن كل تلك المفاجآت، عن السيرة الملتبسة بين لبنانيته وسوريته، بين كتاباته ورسمه، وعن المعارض واحتفالية باليرمو وأعمال أخرى، كان حوارنا "الاستكشافي" مع سمعان خوام:


* متى قررت جدياً الاتجاه إلى ممارسة الرسم ولماذا؟
- لم أظن مرة في حياتي أني سأكون فناناً تشكيلياً. كنت شغوفاً وما أزال بكتابة الشعر. بعد عام من حادثة انفجار لغم بي عام 1993، وهو من مخلفات الحرب في البترون، ما أدى إلى بتر جزء من ساقي، كنت في زيارة لصديق يدرس الهندسة الداخلية حين تشممت رائحة الألوان. رائحة استحوذت على حواسي وأذهلتني. وقررت أن أبدأ لوحدي في اكتشاف هذا الفن. لم أذهب إلى كلية الفنون. اشتغلت بلا كلل تجربة وراء تجربة كي أتمكن من أدواتي ومن الألوان ومن صياغة الأسلوب والتصوير والعناصر. كنت أكتب الشعر وأنشره وأصدرت مجموعتي الأولى "مملكة الصراصير عام 2001، ولم أعتبر أن لي صوتاً خاصاً بي في الرسم. ووفق قاعدة عندما تفقد شيئاً تكسب شيئاً آخر، فقدت خسرت جزءاً من ساقي لكني تخلصت من الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا، قبل حصولي على الجنسية اللبنانية عام 1994.

في العام 2000، أنجزت معرضاً صغيراً لرسومي في "مسرح بيروت"، وكان لي بضع مشاركات صغيرة وخجولة في معارض جماعية شبابية على الأغلب. ثم هاجرت للعمل في تونس.

عندما عدت إلى بيروت عام 2008، قررت أن أنغمس جدياً على نحو عنيد ومحموم في الفن التشكيلي. حينها أصبحت مدركاً أن لي صوتاً وأسلوباً ولغة في هذا الفن، وأن اللوحة هي التي تعبّر عني.

* الأجواء الكابوسية وأنقاض الأشياء وجماليات الفوضى في كتاباتك هي أيضاً أساسية في لوحاتك.. هل من حيرة هنا في اختيار الكتابة أو الرسم؟
- عندما تتعثر الكتابة في قول ما أريده، تنتظم هذه الهواجس في اللوحة.

* معرضك الأخير، في الخريف الماضي، قام على شراكة مع الفنان فادي الشمعة. ما السبب؟
- كنا معاً وتزاملنا في العمل وتشاركنا في الهموم ذاتها، كما في حوار ومعاشرة يوميين. هكذا، كل واحد بلغته الخاصة حاولنا تقديم عالمين مختلفين، ربما يلتقيان على جماليات متقاربة، وفق بحث مشترك من دون خسارة خصوصية الأنا.  

* كنا نعرفك لبنانياً إلى حد أنك كنت منتمياً إلى "القوات اللبنانية" في السنوات الأخيرة للحرب، ثم نكتشف بعد العام 2011، أنك سوري أيضاً. هل من التباس هنا؟
- جئت من دمشق، المدينة التي رفضتني وكان عمري 15 عاماً. رفضتني دمشق على مستويات عدة. عدا القمع السياسي وثقل حضور النظام، شعرت باللاانتماء لسوريا اجتماعياً وثقافياً. هو شعور ضاغط في ذاك العمر. وعندما أتيت إلى بيروت، ورغم سطوة الحرب والموت، أحسست أنها المكان الذي استطيع التنفس فيه. وجدت حريتي الاجتماعية والسياسية والثقافية أكثر بكثير من مدينتي دمشق. لذا كانت بيروت خياري الطبيعي للانتماء. أتيتها عام 1988 لأستقر فيها نهائياً. بالطبع، في السنتين الأخيرتين للحرب كانت سوريتي أمراً خطيراً في البيئة المسيحية حيث أعيش، إضافة إلى رفضي وحقدي تجاه "سوريتي" وسعياً مني للاندماج في مجتمعي الجديد، ولكي أستفيد من بيروت.. كنت أتعمد الابتعاد عن سوريتي، إذ لم يكن لدي ما أفتخر به.

مع اندلاع الثورة شعرت أن من الممكن استعادة شيء أُخذ مني. تركت في سورياً شخصاً عمره 15 عاماً وأحاول الآن مصالحته والتعرف إليه، هو هويتي المسلوبة التي أحاول استعادتها الآن. هكذا، ومع النزوح السوري الكثيف إلى لبنان، أقمت صلات وعلاقات مع الفنانين والشعراء والمثقفين السوريين الذي استقبلتهم في منزلي ومشغلي. معهم عدت للتعرف على سوريا ومناخاتها. أنجزت بهذا المعنى، وبفضل الثورة، مصالحة مع هويتي الأصلية. وما يجب قوله عن سوريا أن الحرية كانت موجودة، لكن للأسف لم يطرقوا بابها طوال 50 عاماً.

* بهويتك السورية "المستجدة" (إذا صح التعبير)، كانت مشاركتك الخاصة في معرض باليرمو، التي شكلت حدثاً ثقافياً وتشكيلياً هناك. ما هي المناسبة وحيثياتها؟
- هناك مجموعة "إيماجو موندي" الفنية ومؤسسة "فابريكا" التابعة للوسيانو بينيتون (صاحب مصانع ألبسة "بينيتون" الشهيرة) ينظمان سنوياً معرضاً دولياً في باليرمو. كل عام تطلب "إيماجو موندي" من بلد، أو تكلّف قيّماً فنياً، اختيار مجموعة من الفنانين ينجز كل واحد منهم خصيصاً للمعرض لوحة صغيرة بقياس 10× 10 سنتم. تصدر هذه الأعمال في كتاب (كتالوغ) ويقام لها معرض يتنقل في العالم (بات لديهم 3800 عمل فني محفوظ في متحف مدينة تريفيزو). في العام 2015، شاركت في هذا المشروع مع مجموعة الفنانين السوريين. وهذا العام قرروا التوسع بفكرة المعرض على أن يكون بقسمين: قسم جماعي كما العادة، وقسم فردي لأعمالي، ضمن فعالية ثقافية في باليرمو للفنون المتوسطية. اختاروني من ضمن الفنانين السوريين، لنتحدث عن الفن السوري ودوره السياسي.

المعرض الفردي كان بمشاركة مع المصوّر البريطاني جايلز دولي، وهو فوتوغرافي تتمحور أعماله وصوره حول الأماكن المتأثرة بالحروب، وهو أيضاً مصاب بانفجار لغم في أفغانستان أدى إلى بتر ساقيه وجزء من يده، ويعمل مع جمعية "إيمرجنسي" التي تُعنى بإنشاء المستوصفات والمستشفيات في أماكن الحروب (مدينة الموصل أخيراً).

قبل المعرض، أنجزت مؤسسة "فابريكا" فيلماً وثائقياً لماركو بافان بعنوان “Shame and soul” عن الفن التشكيلي في بيروت (تغريد درغوث، مروان سحمراني وأنا) بصحبة الفوتوغرافي جايلز الذي يحاورنا ويعمل على تصويرنا في حياتنا اليومية وداخل مشاغلنا الفنية.. وانتهينا بزيارة إلى جمعية "بيوند" التي تُعنى بالأطفال اللاجئين، في مركزها الجديد في البقاع. الفيلم يقارب موضوعة الفن والسياسة.

الجدير ذكره هنا أن باليرمو هي المدينة التي تستقبل الكثير من اللاجئين عبر المتوسط. وهي مدينة منفتحة، وأي مسؤول فيها يقول لك: "لدينا صفر لاجئين" تعبيراً عن نفي الصفة عن الآتين إليها وترحيباً بهم كمواطنين جدد.

* أود أن أعرف بالضبط نوعية مشاركتك ومعرضك؟
- ضم معرض باليرمو مجموعة "إيماجو موندي" في جناح، ومعرض “Shame and soul” في جناح آخر، يحتوي على أعمالي وأعمال جايلز دولي، بالإضافة إلى اشتغالي على عملين أنجزتهما أثناء المعرض، أولهما غرافيتي تحت عنوان "إذا البحر سيغرقني فإني أحتاج إلى جناحين لأعبر إلى الضفة الأخرى" (9 أمتار بمترين)، والعمل الثاني رسم بعنوان "الساقط" (أو سقوط الإنسانية) (9 أمتار بثلاثة أمتار)، قدمتهما إلى بلدية باليرمو، التي منحتني بدورها "المواطنة الفخرية". المعرض استمر شهراً كاملاً ضم 36 عملاً على ورق بمواد مختلفة. وقامت "بينيتون" بشراء أعمال المعرض كاملاً، الذي يعود ريعه للأطفال اللاجئين، حيث بدأت بتنظيم دروس خاصة لهؤلاء الأطفال بالتعاون مع جميعة "بيوند".

* تطرقت أكثر من مرة لموضوعة الفن والسياسة. ما الفحوى التي تقولها؟
- اللوحة لا توقف حرباً ولا تنقذ طفلاً، لكنها تدوّن كل ما يجري. فيما بعد، من يريد أن يعرف ما حدث يعود إلى الفن وإلى ما أُنجز من آثار بالكتابة وبالرسم ليفهم ما جرى. في السنوات الأخيرة شعرت باليأس، لكن العمل مع الأطفال منحني المخرج والأمل. معهم نتمسك بفكرة الحرية ونحاول منحهم الثقة بالنفس، فإذا عادوا إلى بلدهم سيكون لديهم ما يقولونه، وإذا خرجوا إلى بلد بعيد فلن يكونوا مجرد لاجئين.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها