الإثنين 2017/03/27

آخر تحديث: 15:00 (بيروت)

بورتريهات جيلبير الحاج: إماطة الوجه عن المُحيا

الإثنين 2017/03/27
increase حجم الخط decrease
حين ننظر إلى البورتريهات التي صورها وعرضها جيلبير الحاج في "الآن وهنا" (غاليري تانيت)، لا نرى في كل واحد منها وجهاً فقط، بل من الممكن أن ننفذ إلى المحيا خلفه. فوراء كل وجه من تلك الوجوه، التي تتبدل باستمرار على جدران الصالة، هناك محيا، أي طلعة وجدانية، تشكله، وتطبع مثوله.

يتفاوت المحيا من بورتريه إلى آخر، فمرةً، يكون مصدوماً، ومرةً، حزيناً، ومرةً، وحِشاً، ومرةً، مبهماً، ومرةً، خجولاً، ومرةً، مجروحاً، وهو لا يصيغ هيئته، أو الوجه، فحسب، لكنه، يدمغ إطلالة صاحبه بمجملها، واسماً عنقه وصدره. المحيا هو نقطة إرتكاز الشخوص أمام الكاميرا، التي قدرت على إخراجه، وجعله مرئياً، حتى جاءت الصور على قياسه، ومن أثره أيضاً.

يبدو أصحاب البورتريهات، في غالبيتهم، مرتاحين لوقوفهم في إزاء الكاميرا، التي لا تقسو عليهم، لكنها، وبالتوازي مع هذا، تشدهم صوبها. على هذا النحو، نحو السكينة المنجذبة إلى عدسة تثبيتها، يظهر هؤلاء على أهبة البقاء في صورهم، ذلك، أنها تتيح لكل واحد منهم أن يكون بمحياه، بدون أن يخفيه أو يكتمه. تالياً، لا تدور الصور على عكس حضورهم، بل إنها تركزه، وتبينه، أو بالأحرى تنشطه، إذ لا يمكن لمشاهدها سوى أن يلاحظ وطأته فيها.

ثمة، في هذا السياق، شقلبة لمعادلة بعينها، وهي أن الصورة، بوصفها تمثيلاً لموضوعها، تقوم بإزالته، بتغييبه، إلا أنها، وعلى نحو ما أنتجها الحاج، تقوم باستخلاص حضوره، وإبرازه. المحيا هو الذي يؤلف علامة هذا الحضور، أما الوجه والصدر والعنق، فأعضاء تفصح عنه. في المقلب نفسه، تغدو أجسادهم، بقسمها العلوي، رجاء حضورهم، وممره، كما لو أنها "هنا"هم، التي يقطنون فيها لكي يتصلوا بأحوالهم، ولكي يطلّوا منها. فالـ"هنا"، في بدايتها، هي موضعهم قبالة الكاميرا، وفي نهايتها، هي أجسادهم، ولا يمكن فصل البداية عن النهاية، لأن وقوفهم لتصويرهم يسمح لهم بالحلول في أبدانهم. الصور لا تمحو ملامحهم، ولا تخل بسحناتهم، على العكس تماماً، أي أنها تحثهم على التقدم عبرها إلى أنفسهم، وهكذا، تصير العدسة "وسيطاً فنياً" يضعهم على مقربة من حضورهم، ويصيّرهم ملمين به.

بالإضافة إلى ظرفه المكاني، يتعلق المحيا بظرف زمني، وهو "الآن"، الذي يدل على لحظة التصوير طبعاً، لكنه، يدل أيضاً على ديمومة الحضور من خلال الصورة. فـ"آن" البورتريه هو، من جهة، حاضر الإطلالة، الذي لا يكف عن التجدد، كما أنه، ومن جهة أخرى، حاضر النظر إليها، الذي لا يتوانى عن الإضمحلال. في المحصلة، حاضر الصورة أقوى من حاضر الحملقة فيها، أو بالأحرى تلبية العيون لمناداتها، ذلك، لأنه فعلياً وقت الحضور، الذي، ومع أنه ملتقط في الماضي، لا يخسر أهبته، بل إنه يضحى قادماً. وفي هذا المجال، ثمة شقلبة لمعادلة فوتوغرافية أخرى، بحيث أن زمن البورتريه ليس زمن الإلتقاط المقفل، بل إنه زمن رحب وشديد، يتسع للسابق واللاحق بسبب أنه مرتبط بالوجدان، بالحضور. فالوجه في البورتريه لا يرسخ على حاله لأنه مجمد في لحظةٍ ما، بل لأن محياه منصرم وآتي على حد سواء.

تلم كاميرا جيلبير الحاج بالحضور، ولإلمامها هذا معنيان. فهي، من ناحية، تميط كل وجه في البورتريه عن محياه، وهذا، بدون إعطابه، بل من خلاله، فيكون الوجه هو معبر المحيا ومعبّره: إماطة الوجه عن المحيا يرادف إناطته به. مثلما أنها، ومن ناحية أخرى، تجمع القسم العلوي من الجسد حول ذلك المحيا، ليكون موجوداً في الصورة، إلى درجة إطمئنانه إليها، واستعداده للبث فيها. ولما يصنع الحاج سلسلة من البورتريهات المتبدلة باستمرار على الجدران، لا يفتح أمامنا ألبوماً فوتوغرافياً لنتفرج عليه، بل وجوهاً-أبواباً، تفضي بنا إلى دواخل إنفعالية، حيث يصير الإنصراف منها، وكما قالت إحدى زائرات المعرض، إشاحة للنظر عما يشبه المرايا، وإمعاناً في الضوء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها