الأربعاء 2017/03/22

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

"حيث تركت روحي" لفيراري: ذاكرة المحاربين مستودع بارود

الأربعاء 2017/03/22
"حيث تركت روحي" لفيراري: ذاكرة المحاربين مستودع بارود
يدخل فيراري في مساجلات عن "ما وراء الخير والشرّ"
increase حجم الخط decrease
تظلّ فترة الاحتلال الفرنسيّ للجزائر أرضاً تاريخيّة خصبة يعود إليها روائيّون جزائريّون وفرنسيّون بين الحين والآخر، يستقون منها حكاياتهم، ويحاولون قراءتها ومقاربتها من زاوية مختلفة كلّ مرّة، يعيدون تصنيف الأحداث وترتيبها وفق تقويمهم الزمنيّ الروائيّ الخاصّ بهم. 
الروائيّ الفرنسيّ جيروم فيراري، يعود في روايته "حيثُ تركتُ روحي"، إلى نهاية الخمسينيّات في القرن العشرين، ليلتقط زاوية من زوايا الحرب المستعرة هناك بين الاحتلال الفرنسيّ وجيش التحرير الوطنيّ الجزائريّ، ويعقد مواجهة بين الجلّاد والضحيّة، بين السجين والسجّان، بين المستعمر والثائر، وهي مواجهة روائيّة لا تبتغي مصالحة بقدر ما تبحث عن تفسير لما أغفله التاريخ الرسميّ حينها.  

يلتقط فيراري حالات انعدام مشاعر العار، يحكي عن الذلّ المرير، عن تحوّل سجناء فرنسيين تعرّضوا للتعذيب على أيدي النازيّين الألمان في الحرب العالمية الثانية، إلى متماهين مع النازييّن أنفسهم، حين انضموا إلى جنود الاحتلال الفرنسيّ، متقمّصين شخصيّات سجّانيهم السابقين وأدوارهم بعدما أصبحوا سجّانين في بلد آخر.

يشير العنوان إلى مكان ما، يفترض أن أحدهم ترك روحه فيه، ويكون ذلك تأكيداً على التشبّث بالمكان الذي ابتعد عنه أو انتزع منه لسبب ما، وتكون العودة إلى ذاك المكان بحثاً عن الروح المتروكة التي تؤثر البقاء في زمن سابق على الانتقال إلى مكان وزمان جديدين، قد لا يوافقان مزاج صاحبها ولا فكره وروحه، فتعيش اغتراباً وتعاني تشتّتاً وضياعاً واستلاباً.

جندي سابق في الجيش الفرنسيّ يتذكّر مشاهد من سنوات خدمته أثناء الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، يستعيد ذكريات تعيش معه، لا يستطيع نسيانها أو تجاهلها، وهي التي رسمت بصيغة ما، مسار حياته، وبلورت شخصيّته كمحارب سابق يعاني آلاماً نفسيّة لا تبارحه.

الملازم أندرياني يتوجّه بحديث استذكاريّ، إلى النقيب أندريه دوغورس، الذي خدم معه وأحبّه بطريقة غريبة. يخبره عن تفاصيل حادثة "طاهر" الذي شنق نفسه في السجن. طاهر الذي كان زعيماً في جبهة التحرير الوطنيّ في الثورة الجزائريّة، يتخلًّص من عار المستعمر باختياره إعدام نفسه وعدم إفساح المجال لمستعمره الفرنسيّ كي يعدمه ويعاقبه على ثورته وخدمته لبلده وتضحيته من أجل تحريره.

سلب طاهر، بفعلته تلك، المحتلّ الفرنسيّ، شرف محاكمته وتجريمه على أفعاله ومقاومته، ولم يفسح له المجال كي يبتزّه وينكّل من خلاله برفاقه ومقرّبيه، تحلّى بشجاعة الثائر وقرّر أن يكون تصرّفه الأخير صفعة لسجّانه الذي كان يعيش أوقاتاً عصيبة بدوره، ولا يستدلّ إلى سبيل للراحة.

ذاكرة المحاربين القدماء تظلّ بمثابة مستودع بارود يستقون منه أحزانهم وآلامهم وبذور الخيبات التي زرعوها بأياديهم، وانسياقهم وراء أوامر القتل والتدمير، وكأنّ الخدمة العسكريّة كانت تلزمهم بالانسلاخ عن إنسانيّتهم والتنكيل بأولئك الذين يصنّفون كأعداء يجب التخلّص منهم بأيّ ثمن.

يسترجع فيراري لحظات من التوافق والانسجام كان يحياها راويه "في الصحراء" الجزائريّة، وكيف أنّه كان يسعى بكلّ جهده ليعقد مصالحة مع الواقع المأساويّ والصراع الدمويّ الشرس الذي وجد نفسه طرفاً فيه، وذلك من خلال التوجّه إلى تعليم الأطفال، انطلاقاً من إيمانه بضرورة أن يتسلّح الجديد الصاعد بالعلم والثقافة كي يكون قادراً على مواجهة مستجدّات العصر بقوّة المعرفة.

الراوي الفرنسيّ يحنّ إلى المنطقة التي مكث فيها أثناء خدمته في صفوف الجيش الفرنسيّ، تعرّف هناك إلى كثير من الأشياء والتفاصيل، تعرّف إلى ذاته بمعنى ما، انسلخ عن العنف الذي يسِم سلوكيّات الجنود في فترات النزاع والحروب عادة. توجّه إلى الآخر مبرزاً تعاطفه وإنسانيّته ورغبته في النهوض به. لا يكون حنين الفرنسيّ، حنيناً إلى استعماره للجزائر ولإعادة احتلال أرض وبلد، بل يكون حنين الإنسان للصفاء المفتقد والتسامح المغدور. 
يذكّر النقيب بمجزرة ارتكبها عدد من الجنود الفرنسيين، وهو معهم، ويحاول إيجاد أعذار أو تبريرات للجريمة التي قضى فيها الكثير من المدنيّين. تراه يقوم بتأويل الموت كشأن جادّ واصفاً الضحايا بأنهم لم يكونوا خائفين. ويقول إنهم جعلوا الموت لطيفاً عليهم. وإنّهم فعلوا ذلك من أجلهم. يصف بصفاقة، حالة أولئك الضحايا وهم يتعرّضون للقتل: "كانوا ينظرون إليّ هم أيضاً. يشاهدون وجهي وعيونهم خالية. لا يُشاهَد في أعينهم أيّ أثر لكراهية أو حكم ولا حنين. لا نرى شيئاً سوى السلام والراحة بأنهم أصبحوا أخيراً وبفضلنا أحراراً. سيدي النقيب لم يعد بإمكان أحد منهم أن يتجاهل أنّ الجسد، حقّاً، مقبرة".

يصوّر فيراري كيف أنّ السجين يقف قبالة السجّان، يواجهه بكلّ عنفوان المقاوم صاحب الحقّ والضمير، يدينه ويتحدّاه في معتقله، ينقل إحساس المتّهم إليه، كأنّما تكون المحاكمة بصورة مختلفة. يحوّل السجّان إلى السجين، أفعاله وآثامه، يكيل له التهم، يضعه في موقف يفرض عليه الدفاع عن نفسه والبحث عن تبريرات غير مقنعة لإيغاله في جرائمه.

يلقي النقيب باللائمة على نفسه، لعدم منعه طاهر من شنق نفسه، ينتابه شعور متّسم بالتناقض، فقد تخلّص طاهر من عبء التحقيق والاستجواب والتعذيب واكتسب راحة مرحليّة، كما أنّه شعر بالضعف أمام سجينه الذي سلبه قوّته وحوّله إلى سجين ماضيه وجرائمه.  

يدخل فيراري في مساجلات عن "ما وراء الخير والشرّ" ورؤية كلّ طرف للخير والشرّ من منظوره، وتبريره لنفسه ما يقدم عليه انطلاقاً من تعريفه للقضايا والمفاهيم، لدرجة الانسياق وراء عنف أعمى أحياناً في محاولة تقنيع الكراهية غير المبرّرة التي تسطو على المرء، وتفقده رشده في لحظات تضييعه بوصلته الإنسانيّة، وتطبيقه الأوامر من غير مراجعة أو تدقيق.  
يسترجع صاحب "موعظة عن سقوط روما" مآسي أنتجها الحقد القاتل المتعاظم الذي يخلقه جنون الحرب ويضاعفه ويضخّه في محيط الإنسان ويلوّثه ومجتمعه بذلك، ليعيش لعنة التاريخ المتجدّدة التي لا تفسح فرصة لروحه كي تهدأ فتعرف طريقاً للاستقرار، فيكون نزيل القلق الدائم، وموقوفاً للندم وباحثاً عن درب للعودة إلى حيث ترك روحه.


(*) الرواية كانت قد فازت بجائزة تلفزيون فرنسا لأفضل رواية في العام 2010. وهي صادرة عن منشورات مسكيلياني في تونس، بترجمة محمّد صالح الغامدي 2016. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها