الثلاثاء 2017/03/21

آخر تحديث: 06:18 (بيروت)

جوزف كودلكا: "المنفى، التشرد، غزو براغ، الغجر"

الثلاثاء 2017/03/21
increase حجم الخط decrease
منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم تشهد باريس معرضاً لمن اختارها منفى وهوية. إنه التشيكي جوزيف كودلكا (1938) الهارب من تشيكوسلوفاكيا (سابقاً) بعد دخول حلف وارسو إلى براغ، وتغطيته لمقاومة هذا الوجود العسكري، ثم تسريب الصور سراً إلى أوروبا الغربية لتتناقلها الوكالات في سبق صحافي.

معرض مركز بومبيدو- باريس بعنوان "المنفى"، مقسّم إلى فصول: "الأيدي"، "من دون توقيت"، "غجر"، "تشرّد"، "براهين"، "مادة للأبدي"، و"أزهار"، وهي عناوين لمواضيعه التي شكّلت منفاه الأبدي.


أُخرج كودلكا صور "منفاه"، التي طالما اعتبرها غير صالحة للعرض، من بينها واحدة ليده وهي تداعب مادة أثيرية، سرعان ما نكتشف أنه الماء الذي سيسيل وتختفي هذه الظاهرة بعد التقاط الصورة. ربما هي الصورة التي تختصر مفهومه: كل ما يستحوذ عليه الإنسان هو زائل. امتلاك المادي ليس سوى محاولة مستحيلة للإمساك بالفراغ. إنها محاولة التمسك بالحياة الشبيهة بالمياه المتناثرة.

تتكرر صور الأيدي في "المنافي": ساعة اليد، الصورة الأشهر، اليد الممدودة أمام العدسة لمعرفة الوقت، في ساحة من ساحات المواجهة مع الروس في براغ. ساحة خالية يوم 22 آب 1968، قبل ساعة من تظاهرة لم تحصل ضد الغزو. كانت فخاً نصبه عملاء للإيقاع بالمحتجين فلم يحضروا. سجّل هذا الغياب، مدّ يده ليثبت وجوده، ويشهد على الغياب والحضور. هي من صوره المفضّلة تحيل إلى ذاته، هو الذي كان واقفاً على هامش مواقيت التاريخ، حضر عندما غاب الآخرون. لم يبحث عن توثيق حدث محتمل ليحقق شهادة بصرية. كان بإمكانه إغفال الموعد غير الأكيد في المكان الخالي. لكنه وجد فيه حدثاً عاطفياً، وغياباً مفارقاً جعل من أبناء براغ أكثر حضوراً في الغياب، وفي يقظتهم التي جنبتهم الفخ. حرص المصور الهامشي غير المعروف بعد على لحظة من تاريخ وطنه والعالم.

"الغجر"، موضوعه المعروف، اختصار لشخص كودلكا الذي دخل "ماغنوم" ولم يتخل عن خصوصيته. رفض طلبات الوكالة: "لا أصوّر إلاّ لنفسي" قال. بحث عن الذاتي من دون أن يعرقل المادي مسيرته. بعد تغطيته للغزو الروسي، غادر موطنه نهائياً، مرافقاً الغجر، مهتماً بتصوير حياة البداوة. لحق بهم إلى أرجاء أوروبا. راقبهم، صوّر عاداتهم وشعائرهم. إنه الشغف بحياة الذين لا بيوت لهم،حياة عاشها بعد أن انقطعت آخر صلاته بالوطن الأم، العيش مع الرياح.

في "تشرّد" شعب مجبر على الإنفصال عن الآخرين، شعب الهوامش، المستثنى من الجماعات الحضرية، عليه العيش عند حدودها، في البؤس ولعنة الإنعزال. كودلكا الذي وجد نفسه في عالم رافض للإنتماء، جعل التصوير هويته الوحيدة. عاش منفياً مشرداً لأكثر من 20 عاماً، لا عنوان له ولا رقم هاتف. فقط كيس للنوم. عاش حياة زهد، يتناول قليلاً من الطعام. بات لياليه، أحياناً لدى أصدقاء أو في مكاتب "ماغنوم"، وفي أكثر الأوقات، في الشوارع، على سطح بناية نيويوركية...: "لا نعود أبداً من المنفى" قال.

في المعرض أيضاً 9 صور تُنشر للمرة الأولى، لقطع من القماش والكرتون، افترشها يوماً في ليالي النفي الطويل. 


جعل من الزائل والآني عقيدة تقبض على الأمكنة التي تحيا فيها الإنسانية. "إذا تألمت أكثر من الآخرين، تكسب حق تصوير مثل هذه اللقطات" كتب في مفكرته (1974). من هنا الخلفيات المأساوية لصوره، حيث تختلس الظلال شيئاً من الضوء فلا تعد الوجوه مرئية بالكامل، تتشرد الأمكنة، تصبح الكائنات مجرد مارة صامتين، منشقين حتى عن أنفسهم. ربما هذا ما تسرّه صوره، فتُظهر الإنسان في طبيعته العميقة. ميّز كودلكا الكائن القلق الباحث عن طريقه، العابر من دون مهادنة: "كيف نكون حاضرين وأحياء، كيف نقبل العدم والفقد والإختفاء. كيف نكون ذواتنا؟" قال.

تلك كانت حياة عاشق اللامكان في كواليس المنفى. مديح للفناء ولجماليته ولعبور المنفيين المستمر. تيه المصوّر. معادلته الوحيدة التي رددها دائماً: "لتكون مصوراً، يعني أنه لديك ما تقوله".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها