الأربعاء 2017/03/15

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

"سنواتي الأخيرة" لصلاح فائق.. القصيدة جزيرة للعواصف

الأربعاء 2017/03/15
"سنواتي الأخيرة" لصلاح فائق.. القصيدة جزيرة للعواصف
غرائبية صلاح فائق، هي الألفة الحقيقية، التي تحتضنه.
increase حجم الخط decrease
أن توصف نافذة بالخلاقة، فهذا معناه أنها لا تسمح إلا بفعل واحد، هو فعل القفز. حياة الإنسان الطازجة تتولد هنا من المبادرة غير المحسوبة، والاقتحام المدهش، والاختيار الارتجالي، غير مأمون العواقب. في الوقت ذاته، فإن لحظة من التفكير المنطقي، ستقود المرء أيضًا إلى النتيجة نفسها: القفز؛ إما إلى سماء مثل طائر، وإما إلى أرض مثل حجر. فبتجربة هذا البديل المتاح، هناك فرصة محتملة للنجاة، من عالم ضيّق اتفق المستمسكون بجدرانه على اعتباره مقبرة حاضرة أو مؤجلة.

مغامرة القفز كذلك، بقدر من الشطط والمغالاة، بإمكانها أن تفتح أنفاقًا سرية للجنون، وآفاقًا للخيالات اللامتناهية، فماذا لو أن بداخل الرجل الذي يقفز حوتًا أو تمساحًا، وبداخل المرأة عروس بحر، واتضح أن خلف النافذة أمواجًا، من خلفها أمواج؟ ألن يسمى الغرق "خلودًا" وفق تلك المستجدات العجائبية؟

بعد تهيئة اللاوعي بمثل تلك الصور المتوالدة تلقائيًّا، وذلك النسج اللغوي والتعبيري والذهني على غير منوال، يجوز توقع ما لا يمكن توقعه من الأمور والقصص والتفاصيل والأساطير، ومن ثم يمكن الالتفات إلى نصوص شعرية فريدة تتلاقى فيها حقول دلالية متباعدة، وتتلاقح مشاهد يعود بعضها إلى المألوف اليومي، والتفصيلي العابر، والبعض الآخر يحيل إلى أزمنة وأمكنة عديدة، منذ عهد آدم وحواء، مرورًا بقدماء المصريين، والحضارات القديمة والحديثة، عبورًا للمحيطات والفضاءات واليابسات في كل الخرائط والأطالس المنسوخة والجديدة، وصولًا إلى هجرة إنسان المستقبل إلى كوكب المريخ.

في مجموعة صلاح فائق الشعرية "سنواتي الأخيرة" (*)، يبدو العنوان مخادعًا، فلا هي سنوات، ولا هي أخيرة. الحدود المعيارية لا وجود لها في التجربة المعيشة الثرية، المنفتحة على الحياة والتاريخ، القائمة على نسف الحدود والاستهزاء بالمعايير. هنا، أفكار جديدة أيضًا حول الهندسة، تصل إلى أن "الخط المستقيم ليس أقصر مسافة بين نقطتين"، كما أن الخطين المتوازيين قد "يلتقيان في النهاية، خلف كوخ، أمام سجن". وبالسخرية من قوانين الوجود، ومن الوجود ذاته، يتطلع الشاعر إلى تكريمه كمكتشف خطير: "أظن من عدم اللباقة تجاهلي، وتكريم أشخاص مثل نيوتن، آينشتاين، ومدام كوري".

هذا شاعر، عُزلته الاختيارية هي صخبه وازدحامه، يعيش في إحدى جزر الفلبين منذ العام 1993، واختارت قصيدته أن تكون جزيرة هي الأخرى، مسكونة بما لا تتسع له الجزر الأرضية من فوضى بشرية، وحروب بدائية وحديثة، وصراعات بين الكائنات الحية، وتقلبات مناخية برية وبحرية وجوية، وظواهر طبيعية مُهلكة، أهونها: حرائق الغابات، والعواصف، والزلازل، والبراكين، وزيادة الضرائب رغم حدة الفقر في بلاد التعساء والمقهورين. لا يستسلم الشاعر لـ"سنواته الأخيرة" (عنوان الديوان)، بمعناها المباشر الضيق، إذ هو لا يريد نسيان الشمس، ولا اعتزال السفر، في المكان والزمان: 
"في سنواتي الأخيرة، بدأت أتوهم أني شاعر
نسيتُ الشمس، حبي للسفر
والوقت الذي أقضيه متخيلاً تسكعي
في أزقة مدن بعيدة، متجاهلاً مخاطر جلوسي
قرب مقهى أو حانة
واهتمام امرأة بي"

دينامية القصيدة هنا، والشاعر أيضًا، لا تقبل أي استقرار. التحرك، حتى من بدايته، لا يكون أبدًا من نقطة ثابتة، والإيهام بالوصول الظاهري يعقبه انتقال بسرعة البرق إلى البعيد، عبر ومضات شعرية متلاحقة تفوق تتابع الموجات في بحر غاضب. ضربات الفرشاة في هذا الطرح الشعري الممتد ليست هي لاوعي السورياليين، ولا تراكيب الكولاج، فالقصيدة المسكونة بالعواصف ليست نهاية المطاف، إذ إن صانعها قادر على تجاوز مقولة المتنبي "على قلق كأن الريح تحتي" إلى إمكانية صياغة الحياة ذاتها من خلايا العواصف. هذه المقدرة، التي تتجلى شعريًّا في مجموعة "سنواتي الأخيرة"، تحسسها فائق في مجموعة سابقة له هي "غيمة في غرفة الضيوف" (منشورات مجلة الجديد، لندن، 2015): "صنعتُ حياتي من عواصفَ, فوانيسَ وومضاتِ نجوم/ من كتبٍ تضحكُ على سلالتي الهمجية، وأنين كمانهم في الليل/ من حنان الضباعِ وقرف الأيام/ من العناقِ وتقبيل نهودٍ/ من اليأسِ أمام مطاحن مهجورة/ من عرباتٍ هربتْ خيولها الى صحراء/ من شعراء يطاردونَ ظلالهم، منذ آلاف السنين/ من رملٍ، وملعقة".

"سنواتي الأخيرة"، تجربة الأخطاء المقصودة بامتياز، وهي ليست مجرد الأخطاء الطباعية التي تسلي الشاعر، إذ "ما كان بحرًا صار حبرًا". الشاعر لا يقلب الحروف الهجائية في الكلمات محل بعضها البعض، كما يدعي، إنما هو حين يخطئ متعمدًا يقلب كل شيء. هو ذاته، قد يمشي على السماء، مقلوبًا، ورأسه إلى الأرض. وقد يتوّج بالميدالية الذهبية في المارثون، رغم أنه جرى وحده في الاتجاه المعاكس:
"أنا أيضًا مرة في السنة، 
أشارك في مارثون لندن
وأركض وحدي في اتجاه آخر"

ما يريد الشاعر أن يفعله، هو باختصارٍ أن لا يفعل شيئًا مقصودًا. أن يترك أعضاءه تتصرف من تلقاء ذاتها، فيما هو يراقب إلى أين ستأخذه، وماذا سوف تقترفه. الشعر كذلك، يستخرجه الشاعر من بئر في جوفه، وأقصى أعماقه، بصورته الأولية غير المشغولة، فهو كإنسان بدائي لا يؤمن بمداخن المصانع. هذا الشعر، الفن العظيم، الذي يدرك الشاعر قيمته جيدًا، يهديه للبشرية وللكائنات بلا مقابل مادي، شأنه شأنه المواد الخام، التي وهبها الله للجميع. يقول فائق في ديوان سابق له بعنوان "من رباعياتي" (مرسين، تركيا، 2014): 
"ليس للشعر أي هدف، هو موجود في هذا الكون
كإمكان. إن لم أكتبه أنا، سيكتبه إنسان آخر
في زمن ما. أتفاخر بأن ما أكتبه مجانًا
وأتحمل، في أقاصي الليل، شخير جيراني"

ولأن الحصيلة الشعرية لصلاح فائق زاخمة، إلى الحد الذي يفوق تصوراته هو نفسه، فإنه في مستهل ديوانه العشرين "سنواتي الأخيرة"، يسرد قصته مع حبيبته المراوغة، القصيدة اللانهائية، التي كلما قتلها صحت من مقبرتها كي تقتله بدورها، فيشعر في تلك اللحظة بأنها حية، وأنه حي لأنه ظل من ظلالها على الأرض. الشاعر أسير بين دفتي كتابه دائمًا، مثلما أن كتبه معلقة في رقبته. هذا البحر، ذو الرياح العاتية، قد يعتذر عن تأمين الشاعر صاحب الصفحات المجنونة، على أن النجوم قد تطرح حلاً مفيدًا: "حزمتَ كتبك إلى إحدى النجوم/ بعدما اعتذر البحر عن تأمينكَ ضد عواصفه الشريرة/ بقيتْ لك أيام قليلة في هذه الجزيرة لتصعد وقت الشفق/ إلى سطح البيت وتنحني للشمس". الشعر هنا هو تاريخ الشاعر، ماضيه وحاضره ومستقبله، الذي لا يملك غيره. جدواه التي يهزأ بها ويصفها باللاجدوى، قرينه الذي تاه سنوات طويلة في أحد الكهوف، ثم عاد ليصيح في وجهه بالحقيقة، قبل أن يختفي تاركًا الشاعر مع وحدته من جديد: 
"دفعَ بابي ودخلَ غاضبًا
ألقى أمامي حزمة قصائد لي، كانت مبعثرة،
أخبرني، بين صخور الشاطئ
أشكره، أتظاهر بالأسف، أستنكر غفلتي،
وأتبجح بالدهشة،
لكني، حقًا، تركتُها هناك لأتخلص منها.
يخرج، أندفع وراءه،
- أرجوك، لم تخبرني حتى اسمك..
- اسمي صلاح فائق.
يختفي"

بمثل هذا الغياب المدهش، لصلاح فائق الثاني، يكتشف صلاح فائق الأول أنه حاضر بقوة. هكذا يدير الشاعر لعبته بالنسبة للموت والحياة: "حين يموت صديق لي، أكتشفني ما زلت حيًّا، أتأثر". الأحياء يكتشفون أنهم أحياء، حين يسمعون صوت الموت. أما الأموات، فحين يصدمهم صوت الأحياء، يكتشفون أن أكفانهم باتت أكذوبة، ينبغي تمزيقها:
"أمس، من مرتفع، شاهدتُ ميتًا من مقبرة قديمة
يمزق كفنه وينادي الحراس مستاء
من صرخات راكبي دراجات هنا
وثرثرة لاجئين طُردوا من كل مكان"

في تجربة "سنواتي الأخيرة"، لصلاح فائق، لا أحد يقدر على السخرية من الشاعر، الذي يلعب بكل شيء، لأنه من جهة يرتاد كل طرق السخرية، فلا يترك شيئًا لغيره، ومن جهة أخرى، فإنه "لا أحد هنا ليراه أو يسخر منه، سوى كلبه". هذا الكلب، هو شريك الشاعر في البيت، وهو أيضًا المستمع الوفي، الأول، للقصائد التي لا يملك الشاعر غيرها ليهديها للموجودات. الكتابة عند صلاح فائق، احتشاد كامل، كامن وظاهر، ليس بالمعنى الذهني أو التعسفي، إنما هو يتنفس القصيدة، ويأكلها، ويرتديها، كما أنها تمارين الصباح، وعمل النهار، وواجب المساء. وبينما هو يكتب ويكتب: "تهبط مركبات فضائية، حول بيته، ويلحظ، عند أبوابها، فتيات يحملن قارورات عسل". وفي رحلته الدائرية، حول محور مجهول، لا يكف الشاعر "عن المشي في جنائز لا يعرف موتاها"، ولا يكتفي بهبوط مركبات فضائية حول بيته، وفي قلبه، بل إنه يلبي دعوة نهر مريض، إذا دعاه من كوكب المريخ: 
"أسافر من قريتي إلى المريخ
ملبيًا دعوة أحد الوديان، لأقرأ قصائد لي
على نهر مريض هناك"

تلك هي الكتابة التي يرتضيها الشاعر، لتكون بديلاً عن عالم خرب. الشاعر تضحكه كثيرًا مخاوف البشر، ولهذا السبب "يتعاطف أكثر مع تماثيل تسرد حياتها له". الأسهل من مراقصة بشر غير حقيقيين، أن يحرك الشاعر بنفخات من روحه، ونفحات من ريحه وريح قصيدته، تماثيل يمكن اتخاذها أصدقاء أوفياء. لن يجوع الشاعر أبدًا، حتى إذا صار العالم وحشًا جائعًا يلتهم كل شيء، حتى صغاره. لن يجوع القائل: "عندما أجوع، أسحب فاكهة من قصيدة لي: تعلمتُه من شعراء أفضل مني". البحر يحطم زوارق النجاة، العواصف تحطم البحر ذاته، فيما تبقى كلمات يمكن التجول في حدائقها:
"لم يعد هذا العالم يغريني، صيادلة في كل مكان
زوارق محطمة، ريفيون في ممرات
لتهريب غزلان من مروج.
سأتجول في حدائق كلماتي
أخرج من نفسي أو أدخلها
وقتما أريد"

غرائبية صلاح فائق، هي الألفة الحقيقية، التي تحتضنه. هي التي تأتيه بالبشر والجنيات وعرائس البحر، وبالوطن الذي ابتعد عنه من قديم، ويشتاق إليه في منفاه "في الليل أحلم بأني في بلدي/ لذا لا أغلق نافذتي، قد يصل أحدهم من هناك. يدخل وأنا نائم". هذه الألفة، يمكن للمتلقي كذلك استشفافها في قصائد فائق، شرط قراءتها بمنطقها هي، لا وفق معطيات جاهزة، أو أنساق معلبة. لا شيء معلبًا في قصائد صلاح فائق سوى الطعام الفاخر، الذي ربما يجود به في مرات قليلة على كلبه الوفي، الذي لا يرهقه أبدًا طول الاستماع للقصائد. الشاعر يثمّن جدًّا هذه القدرة الفريدة لدى الكلب على الاستيعاب، فهكذا ينبغي التعامل مع القصائد. أما الذين يحاولون الفهم، ولا يفهمون، ويتهمونه بالهذيان أو بالمرض، فإنهم هم المرضى في حقيقة الأمر، بل الكسالى والأغبياء، الذين لا يجب التهاون معهم:
"ما فائدة تساهلي مع من يقرأونني
ولا يفهمون ما أقول؟
البعض يعلق هنا، وآخر هناك
مفادهم إني ذاتي، حزين وأهذي
وصفٌ لحال مريض، وليس حول شاعر"

إن التفاعل مع قصائد صلاح فائق، بمنطق تأويلها، لا مشاركته في ارتياد عوالمها، يشبه بتعبيره هو في إحدى قصائد "سنواتي الأخيرة" أرملة تنتحب في أحد الوديان، لا تجيب على أي سؤال، ماذا تريد؟ لا يعرف أحد ما لغتها، ومن أين هي". المغارات، والأنفاق السرية الكثيرة، في تجربة فائق، لا تعني غياب الطرقات المعبّدة الواضحة كذلك، لكن آلية السير ذاتها في طرقاته ومغاراته وأنفاقه هي التي يجب أن تكون مغايرة. عندما يمسك شاعر إبرة في يده، ربما يتوقع البعض منه أن يرتق قديمًا أو حتى يحيك جديدًا، لكن قارئ صلاح فائق عليه أن يشاركه في تلك اللحظة فعلًا آخر، هو سحب غُراب من ثقب الإبرة:
"استنجد بي غرابٌ لأسحبهُ من خرمِ إبرة
لبيتُ رجاءهُ، وبينما كنتُ أجرهُ بحبل
انتبهتُ إلى مراسلينَ يلتقطونَ لنا صورًا
بكاميراتٍ قديمة.
بعدما أنقذتهُ، طلبتُ من أحدهم صورةً لي مع الغراب,
فرفض!"

صلاح فائق، شاعر يعيش في البعيد، ويكتب عما هو أقرب إليه وإلينا من حبل الوريد. أما اللهاث الذي ينتاب مُصافحي قصائده، فلأن الساعين إلى ملاقاة ذواتهم الحقيقية، عليهم أن يعلموا أن تلك الرحلة المضنية هي سكرات المتاهة.


(*) صدرت المجموعة الشعرية "سنواتي الأخيرة"، للشاعر العراقي المقيم في الفليبين صلاح فائق، في يناير 2017، في 116 صفحة، عن دارَي "ألف ليلة" بالقاهرة، و"بروداد" ببروكسل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها