الأربعاء 2017/03/15

آخر تحديث: 11:23 (بيروت)

"الفرش" التي تصير قبوراً أمامنا

الأربعاء 2017/03/15
increase حجم الخط decrease
لطالما استوقفني مشهد فرش الأسرة التي يرميها أصحابها الى جانب مكبات النفايات في شوارع بيروت. اذ واظبت مطولاً على التقاط هذا المشهد بعدسة الموبايل، وتكديس صوره، إلى أن أضعت هاتفي ذات يوم في سيارة أجرة، وبعد أيام، أعاده لي سائقها، وقد محا ذاكرته، فاختفت كل الصور. لاحقاً، اكتشفت انني احتفظت بأربع منها في صندوق بريدي الالكتروني، بحيث انني كنت قد ارسلتها الى رفيقة، محدثاً اياها عن احساس محدد، كان يعتريني كل مرة انظر فيها الى فراش متروك على الرصيف بعدما تخلى عنه مستخدمه: الإحساس بأن رمي الفراش على هذا النحو قد جاء إثر جريمة كان هو ذاته قتيلها.

فعلياً، ما زلت على إحساسي هذا، وما أبالي به حالياً هو ان هذا المشهد ما زال يجذبني، وما زلت أرى فيه ضرباً من العنف. فمنتجوه، وهم المقيمون في المدينة، عندما يرمون فرشهم خارج شققهم، لتكون على مرآنا جميعنا، يعلنون لنا ان الموضع، الذي كانوا يضطجعون عليه، قد انتهت صلاحيته، أي انهم استنزفوا انبساطه، فاسفنجه المضغوط غدا رخواً، وغلافه المشدود أضحى منسلاً. فنقلوع من غرف نومهم الى الحاويات، قبل ان يبتاعوا غيره.

هناك إخراج للفراش من مكانٍ لامرئي الى آخر مرئي، ومن مكان باطن وحميمي إلى آخر ظاهر ومشترك، وإخراجه هذا مشروط بالإعتقاد بأنه مستنفد، وربما، مضنٍ. فبعد نهار من الكد والجهد، سيحل الليل ونعاسه، وستكون غرفة النوم وجهته، وعندها، من الضروري أن يكون الفراش وثيراً، لكي يتيح الإستلقاء عليه، أي اللقاء مع النفس، وتركها تنبسط وتنشرح في الجسد فوقه. أما، في حال العكس، في حال لم يسمح الفراش بالإستلقاء المريح، فعندها، يبلغ لحظة تحوله إلى سقط متاع.

بيد أنه لا يمكن استنزاف الفراش بلا الإمعان في الإستلقاء عليه، ومعاودة هذا الفعل يومياً، إلى أن يتحول من موضع للقاء مع النفس إلى موضع لإجلائها. وحينها، لا يبقى على حاله، بل إنه يفقد شكله المستوي، فيصبح مشوهاً، وأعوج، وقد يحفر الجسد هيكله فيه، ويجعله مجوفاً، ونتيجة ذلك، يبرز مكنونه الإسفنجي أو المعدني، ولا يعود متماسكاً. من هنا، يحمله مستهلكه الى خارج منزله، ويرميه أمامنا، ولما نراه، نشعر بأن عنفاً ما قد مورس بحقه، وهو عنف الإستلقاء، الذي يخلف الكدمات والتمزقات عليه، كما لو ان اللقاء المتواصل مع النفس فوقه كان قد أدى الى تراكم كل هذه القسوة البادية لعيوننا.

أن نلتقي أنفسنا على الفراش، فهذا ينتج، مع مرور الزمن، وتكرار فعلنا، "جريمة" بحقه، جريمة، تبدأ بالتمدد فوقه، وتنتهي بنفيه. فصحيح هو موضع نلجأ اليه لساعات طويلة، لكن هذا لا يكفل له البقاء في غرفته، التي نستعيض عنها بالمكب.

حين تُرمى الفرش خارج المنازل، وتبرز بالية ومتآكلة، تصير قبوراً، غادرها سكانها الأموات بعدما قطنوا فيها، وتركوا آثارهم. وهذه القبور ليست محفورة في الارض، بل على سطحها، ولا ينتظر الواحد منها نازلاً فيه، بل متناولاً له، وقد يمضي به الى بيته، حيث يستلقي عليه بعد اصلاحه، او بعد إكتفائه بستره بغطاء. الفراش المستنزف، الهالك، هو قبر هجره ميته. واستعماله من جديد، يستلزم ان يكون مسبوقاً بنهار أفظع من الموت. فبذلك، يصبح التمدد المنهك على فراش "مقتول"، التمدد على قبر متشقق، بمثابة إعداد للقاء مع نفس مستلبة، سحيقة في بُعدها، بحيث ان الوجع هو السبيل شبه الوحيد لمقابلتها والاطمئنان اليها.

كلما أخرجت المدينة الفرش الى الشوارع والطرق، فهذا يعني أن المقيمين فيها يلتقون بأنفسهم كثيراً عليها. غير انهم لا يلتقون بأنفسهم سوى في وقت النوم او الاضطجاع، كما ان لقاءهم هذا يرادف حفر اجسادهم في مكانها المنبسط كأنهم لا يريدون الانصراف منه. فظهورهم التي يتمددون عليها لا تجد متكأ لها، يمدها بالاستقامة ويقيها من التقوس، على طول نهارها وليلها إلا في قطعة من الإسفنج المحشو بالرفاصات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها