الإثنين 2017/03/13

آخر تحديث: 12:16 (بيروت)

"الرجل الموصلي" يعرّي العالم

الإثنين 2017/03/13
increase حجم الخط decrease
في العام الماضي بُعثت الحياة في صورة كاد التاريخ أن ينساها. بعدما نشر الكاتب النروجي توم إيجَلاند الصورة الأيقونة لـ"فتاة النابالم" في حسابه في فايسبوك، وهي من تصوير Nick Ut، وقام فايسبوك بحذفها مرات عديدة. وصل الأمر برئيس تحرير أكبر صحيفة نروجية (إِسبَن إِجيل هانسن) ان يوجه رسالة نقد مباشرة إلى مارك زوكربيرغ حثّه فيها على الحفاظ على قيم حرية التعبير والنشر، بعدما حذف زوكربيرغ الصورة ذاتها من حسابات نروجية أخرى كانت متضامنة مع حساب الكاتب بإعادة نشرها، ومنها حساب رئيسة وزراء النروج آرنا سولبيرغ، مؤكداً على حق إعادة نشر الصورة بما أنها تمثل بشاعة الحروب في حقبة تاريخية لا يمكن محوها.


في هذه الأيام القليلة الماضية، بعثت صورة "عارية" أخرى الحياةَ في جسد مدينة تحتضر. صورة لا يمكن وصفها إلّا بالكارثية والضرورية في آن، لكي نفهم ما يحدث هناك. الصور التي تردنا من معارك الموصل قليلة، ونادراً ما أثق في مصدر للصور، خصوصاً إذا كانت المصور محلياً يرافق القوات العراقية، بعدما انتشرت صور "مفبركة" كثيرة نُسبت للإعلام الحكومي. لكن عندما تنشر وكالة "رويترز" ألبوماً خاصاً بمعارك ومآسي الموصل والأهالي وهم يتعرضون لشتى أنواع الإرهاب الحربي، فسأقف طويلاً أمامها وأتأمل. صورةٌ واحدةٌ بين أربعين صورة نشرتها رويترز بعدسة المصور المبدع Goran Tomasevic الحائز على جوائز دولية عديدة، تلك الصورة التي تبين قُبح "الحرب الأهلية" وحرب الشوارع، وعندما يختلط الحابل بالنابل والمدني بالمحارب والمجرم بالبرئ، ولا تستطيع العين المجردة التمييز بينهم سوى بتعرية الإنسان.

صورة تُظهر مراحل تعرٍّ لعراقي موصلّي، انتشرت بسرعة في الشاشات والصحف ومواقع التواصل الإجتماعي، بين تعليقات شامتة وأخرى مستنكرة. يظهرُ في الصورة رجلٌ ملتحٍ يركض صوب القوات العراقية وفي طريقهِ يطلب منهُ المقاتل العراقي أن يكشف عن جسده ليتأكد من أنه لا يرتدي حزاماً ناسفاً. يقف الرجل للتعري، يخلع كل ما يرتدي ويبقى محافظاً على اللباس الداخلي، كما يظهر في الصور على الأقل.

هكذا يُثبت براءَتهُ ويُسمح له بالوصول إلى خط الأمان. ومثلهُ كثيرون ظهرت صورهم وهم يحملون أطفالهم هرباً من الموت لا يرتدون شيئاً سوى "الفانيله" وسروالاً خفيفاً. حتى صراخ الأطفال في أحضان آبائهم، لم يكن دليلاً كافياً لإثبات براءتهم من ارتدائهم حزاماً ناسفاً، وربما هذا بسبب أن داعش استنفد كل وسائل القتل والإجرام، ومنها تجنيد الأطفال والنساء والمعوقين، فأصبح كل كائن يتحرك محل شك!

هذا هو حال العراقي اليوم، في مدينة تكاد مدنيّتها وعمرانها يلتحقان بأنقاض الطوفان المزعوم. بعد نشر الوكالة للصورة، تم تداولها في نطاق واسع. واستنفرت "ثلة" من "الأخلاقيين" في مواقع التواصل الإجتماعي، داعين إلى محاسبة ومقاضاة مصور "رويترز" بحجة أنه نشر صورة شخصية لإنسان ربما يعاني اجتماعياً بسببها. في ظني أنه في الحروب، لا انتهاكات شخصية سوى حياة الناس وكرامة الأبرياء. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل "التعري" للضرورة هو انتهاك لكرامة الفرد؟ وهل نشر صور لمراحل هذا التعري هو انتهاك لخصوصية الإنسان؟ والسؤال الذي يقفز في ذهني في اللحظة نفسها، هل كرامة "الرجل الموصلي" أعزّ من كرامة "فتاة النابالم" كي نقاضي الصحافي الذي لم يقم سوى بواجبهِ، وهو يرصد تفاصيل حرب قذرة، يمكن الاستفادة من دروسها يوماً ما؟ فالحروب كلها قذرة، على "نُبل" مقاصد بعضها كما تصفها الأطراف المتنازعة.

كل لحظة نستطيع توثيقها، وسط النار، هي ضرورة لتعريف الأجيال القادمة على بشاعة الحروب وما يتعرض له الناس. تاريخ الحروب زاخر بصور مماثلة، تخبرنا عن بشاعة تلك الحقب. فلا انتهاك لخصوصية الشخص، وهو يتعرى محاولاً إثبات براءتهِ وسعيه للوصول إلى ملاذ آمن. الجسد لم يكن يوماً "سُبّة" كي يكون عاراً على صاحبهِ. العار الوحيد الذي يلحق بالإنسانية هو عندما يُنتهك الجسد بالاغتصاب والاعتداء والأذى والسخرية من الصور والشماتة في أصحابها. الإنتهاك أن تجعل من تصوير لحظة مفصلية سيخلدها التاريخ، مدخلاً للحد من حرية النشر والتعبير وإيصال رسالة مضمونها إنساني أكثر من المحافظة على خصوصية جسد "الرجل الموصلي".

رغم قساوة الموقف لإثبات البراءة، فإن توثيق مثل هذا الإجراء، ضروري لمرحلة تاريخية نحن مقدمون عليها. ليس على "الرجل الموصلي" أن يخجل من شيء وهو يحاول، بكل ما يملك من حب للحياة والعيش، أن يصل آخر نقطة للأمل.. ولو بالتعري.

مثلما عرّت "فتاة النابالم" ذات السنوات التسع، قُبح العالم، ولم نلحظ "عريّها" في الصورة.. عرّت صورة "الرجل الموصلي" قُبح السياسة والطائفية والعنصرية والسلاح والمصالح الدولية والحدود، ولم نلحظ "عريّه". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها