الأحد 2017/03/12

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

عن الإساءة إلى البورنو

الأحد 2017/03/12
عن الإساءة إلى البورنو
"الجسد يؤدي قصة، والقصة تؤدي جسدها".
increase حجم الخط decrease
ما إن تنتشر صورة من صور الإثارة المبتذلة في البلاد، أكانت محور أحد الفيديوكليبات أو هيئة أحد البرامج التلفزيونية، حتى يتلقفها الكثير من مشاهديها بالإعتراض عليها من باب أنها "بورنوغرافية". وما أن تعمد صحف ومواقع إلكترونية إلى نشر خبر من الأخبار الجنسية الركيكة، التي غالباً ما ترتبط بحوادث الموت والعنف، حتى يرفضه بعض القراء على أساس أنه "بورنوغرافي" أيضاً.


إذ تتحول البورنوغرافيا إلى وصفٍ، يجري إطلاقه على صور "الهياج" وأخباره التي تستغل نزعات متلقيها لكي تجذبهم نحوها، وذلك، بالتوازي مع إعلان التبرم منها، والإحتجاج على محتواها. فالبورنوغرافي، هنا، هو صورة العُريّ وخبره، إذ يغدو علامة على ما يسمى "الإنحطاط" و"الهبوط" العامين على مستوى "المجتمع" وفي صعيد "آدابه".

غير أن الإستناد إلى وصف "بورنوغرافي" للكلام عن تلك الصور والأخبار الرديئة والشائعة هو بمثابة إجحاف بحق البورنوغرافيا، وتلافٍ للوقوف على مقالبها. ذلك، أنها ليست مجرد عرض للأجساد العارية في أحيان الإغراء، أو في أوقات المضاجعة، هدفه شد عيون المتفجرين صوبه، وتركيزها عليه، من أجل حثهم على الإستلذاذ الجنسي بطريقة منفردة.

فالبورنوغرافيا مجموع من الدنّى بوجهات متشعبة. أولها، دنيا التصورات عن إشتغال الرغبة والفانتاسمات بين الأجساد، وسبل بناء أواصرها المتعوية. وثانيها، دنيا تقديم هذه التصورات، أو بالأحرى إخراجها، على نواحٍ بصرية وتمثيلية وفنية بعينها. وثالثها، دنيا صراع جنساني وجندري وهوياتي بين الرجال والنساء وأصحاب الميول المختلفة. ورابعها، دنيا سوسيولوجية، تبين أطر الإجتماع وعلاقاته. وخامسها، دنيا إقتصادية، لها مصانعها وأسواقها الرئيسية والهامشية والمنفية. وسادسها، دنيا جمالية ونفسية، تبرز كيفيات التفاعل مع مشاهدها من الإستهلاك البسيط إلى الإدمان المفرط. وسابعها، دنيا فلسفية، بحيث أن البورنو والفلسفة، وعلى قول الباحثة أكاديمية لاورا أوديلو، يشتركان في كونهما يمضيان إلى النظر في الفاعل المعاصر من خلال إبرازه التحليلي والتشريحي، وإعادة فبركته من جديد.

على هذا التعداد المقتضب للغاية، وحتى لو جرى اختزال البورنوغرافيا بأنها عرض للجسد في أثناء المجامعة، لا يمكن تجنب الإنتقال من التفرج على الصور التي تنتجها، إلى التحديق فيها باعتبارها مجالاً واسعاً لإبراز العيش الجنسي وأنظمته، وسلطاته، ومواقعه. فالبورنو، وبحسب ديفيد كوربيه، مؤلف كتاب "النسويات والبورنوغرافيا"، هو وثيقة متواصلة عن الحراك الجنسي في زمننا الراهن، ووثيقة عن آليات إنتاج رغباته وهواماته وغيرها.

يكفي أن نطلع على مواقع البورنو، حتى نقع على آلاف الخانات، التي لا تتعلق بشؤون الجنس البحتة، من قبيل الوضعيات والأفعال الجسدية فقط، بل بشؤون السياسة والإجتماع أيضاً، من نوع التركيز على الجنسيات والأعراق والطبقات... في البورنو، "تتضح التطورات المعاصرة للرأسمالية، وروابط الأخيرة مع الجنسانية"، على قول ماثيو تراشمان في الكتاب المهم "العمل البورنوغرافي"، بحيث أن أفلامها وفيديواتها، التي تنتجها شركاتها، أو التي يعمد الهواة إلى تصويرها بهواتفهم وكاميراتهم قبل نشرها على المنصات العنكبوتية، تعيننا على فهم مآل التصورات الجنسانية وعلاقتها بتصورات أخرى، تبدو، في الأصل، بعيدة منها. لكنها تندرج في صميم تشييدها. فلا يقتصر المشهد البورنوغرافي على التعري وممارسة الجنس فحسب، بل أن بناءه، وعلى قول باتريك بوردي، يقتضي تنسيقه بطريقةٍ، يظهر فيها الجسد كأنه عصارة لإشارات مكثفة، أكانت إيروسية أو إجتماعية أو غيرها، تدفعه إلى إنجاز سردها عنه: "الجسد يؤدي قصة، والقصة تؤدي جسدها".

من هنا، وحين يصفها بـ"البورنوغرافية"، لا يصيب الإعتراض على صور وأخبار العري والجنس السائدة في البلاد، وهو المُستنِد إلى المدونة الآدابية القائمة على نكران المستور بالتباغت. بل إنه يرفع من قيمتها، وبالفعل نفسه، يسيء إلى البورنوغرافيا. فتلك الصور والأخبار لا تمدنا سوى بابتذالها وتعاستها التي تستغل نزعاتنا لكي نواصل تلقيها، و"ننقر على الروابط التالية"، بحسب عبارة ترويجها الإلكتروني، وعندها، لا نقع على موضوع ممتع، ولا على موضوع مفيد. تالياً، ولما تصير هذه الصور والأخبار رائجة، فهذا يقتل إمكانية أي نشوء بورنوغرافي، أكان نصياً أم بصرياً، قبل أن يولد، وهذا ما يحيل أيضاً إلى ما قالته ذات مرة إحدى نجمات وكاتبات البورنو، آني سبرينكل: "يموت البورنو، إذاً، فليحيا!".


(*) كتب كثيرة تناولت البورنوغرافيا مباشرةً أو مواربةً من جهات عديدة، أبرزها، "التفكير في البورنوغرافيا" لروين أوجيين، و"البورنوغرافيا أو استنزاف الرغبة" لبوشيه شاستيل، "البورنوغرافيا وصورها" لباتريك بودري، "فلسفة البورنو" لفريتز ألهوف، "الخطاب البورنوغرافي" لماري آن بافو، "بيان العقد الجنسي" لبياتريز بريسيادو، "الإرهاب البورنوغرافي" لديانا تورز، "المدينة المنحرفة، الليبرالية والبورنوغرافيا" لدانيال دوفور، "قاموس البورنوغرافيا" لفيليب دي فولكو وتوماس بورجوا، "بورنوغرافيا الزمن الحاضر" لآلان باديو، و"نظرية كينغ كونغ" لفيرجيني دبانت، و"ما بعد البورنو" لآني سبرينكل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها