الأحد 2017/03/12

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

التجلي الأول لمعزاة شريف البنداري

الأحد 2017/03/12
increase حجم الخط decrease
الشغف والحميمية. قطبان يحملان فيلم "على معزَة وإبراهيم" للمخرج شريف البنداري والذي يعرض حالياً في صالات القاهرة، بعد جولته في الأشهر الماضية على العديد من المهرجانات الدولية والإقليمية، توجت مؤخراً بجائزة أحسن ممثل حصدها بطل الفيلم على صبحي، والذي يحمل في الفيلم اسم علي أيضاً.


الشغف هو النار التي لا نعرف مصدرها. بقدر ما تمنحنا الطاقة، تستهلكنا، ورغم ذلك نطمح إلى التماهي مع شغفنا مهما كان.

قد يكون الشغف هو الفن. ربما الموسيقى كما هي شغف البطل الثاني في الفيلم إبراهيم (أحمد مجدي). فهو عبقري موسيقي يرغب الجميع في العمل معه، من عمرو دياب إلى مغنّي المهرجانات، لكن أذُنَه الموسيقية هي سر عذابه. تهاجمه نوبات الأصوات، فينهار ويتلوى، ويخشى أن يكون مصيره الانتحار مثل أمه، أو أن يصاتب بالطَّرَش مثل جدّه. تلك الأصوات تمنعه أيضاً من أن يمارس عمله وبالتالي يفشل في أن يكون مهندس صوت لأغاني المهرجانات، ويرفض أن يمسك العود لكي يعزف عليه خوفاً من الأصوات.

الشغف قد يكون الحب، الوله، والوقوع في فتنة فكرة أو شعور عابر نسعى طوال حياتنا للإمساك به مرة أخرى. علي يحب معزاة يدعوها "ندى"، وعلى العكس من إبراهيم هو متصالح مع شغفه واختلافه، لكن الآخرين، من أمه إلى أصدقائه، لا يرون "ندى" ويصرون أنها مجرد معزاة بيضاء.

إبراهيم يبحث عن علاج لشغفه، وعلي تأخذه أمه للبحث عن علاج لشغفه عند طبيب الأرواح. يلتقي الاثنان هناك وتولد الحميمية.

الحميمية هي الابتسامة، والمصافحة، السيجارة التي تعزم بها على غريب، والغريب الذي يصبح رفيقاً. طبيب الأرواح يعطي كلاً منهما كيساً فيه ثلاثة أحجار يجب أن يرمياها في المسطحات المائية الثلاثة: البحر الأحمر، البحر الأبيض، والنيل.

هل الهروب من الوطن، من البلد، من بؤس مكان كمصر يمكن فعلاً أن يحررنا من هذا الشغف؟


قصة الفيلم كتبها إبراهيم البطوط، بينما كتب السيناريو والحوار أحمد عامر الذي كان أمام تحدٍّ خلق إيقاع وحبكة لقصة تتسم بالشاعرية الشديدة وتفتقد للصراع الدرامي. لذلك كان الحل استخدام تيمة "الرحلة"، التي ينطلق فيها مرضى الشغف: إبراهيم وعلي والمعزاة "ندى". التحدي الثاني كان أمام شريف البنداري، ومدير التصوير عمرو فاروق، والمونتير عماد ماهر، لخلق صورة تجعل من رحلة الصديقين مرآة للحميمية التي تنتج من لقاء اثنين يتشاركان الشغف ذاته. صورة لا تسقط في فخ الميلودراما، ولا تستدر تعَاطف المُشاهد، بقدر ما تمتعه وتجعله يرى ذلك الشغف في الحياة، ويقع أسيراً لذلك الوله.

السماء بألوانها، حَاضرة في معظم مشَاهد الفيلم، سماء اسكندرية المتصلة بالبحر الأزرق، وسماء سيناء بألوانها المتعددة من أحمر البحر الأحمر حتى نجوم سيناء الزاهرة. رغم فقر الواقع، فالشغف والفن والحب هو ما يمكن أن يلون الفضاء ويرفعك من الوحل المحيط بك. لكن الطريق مؤلم بما يفوق طاقة البشر، يؤرق عليك حتى أكثر لحظات حياتك سعادة، حينما يقترب إبراهيم من حورية بحر سيناء التي تضع يده على صدرها فتداهمه نوبات الأصوات مرة آخرى. دودة الشغف لا ترضى بأن يكون لها شريك، وألمها قد يدفعك للانتحار مثلما يحاول إبراهيم الانتحار غرقاً في البحر.

تنتهى الرحلة بلا نتيجة واضحة، مثلما بدأت بلا سبب سوى رغبة "ندى" في أن تخلق تلك الحميمية والصداقة بين علي وإبراهيم. لكنك لا تعبر النهر مرتين، وحينما يعود علي وإبراهيم إلى الحارة، يكتمل نضج الفنان ويكون أخيراً قادراً على إبراز شغفه.

تأخر شريف البنداري كثيراً ليصدر فيلمه الطويل الأول، ومنذ تخرجه في معهد السينما العام 2007، اكتفى بعدد من الأفلام القصيرة المتميزة، وبأحلام لمشاريع كبيرة لم تكتمل لظروف إنتاجية مختلفة. يبرر ذلك في حواراته بأنه لم يكن مستعجلاً، بل ينتظر أن يكون أمام فيلم جيد. أو ربما كان في انتظار فيلم يعكس قلقه الخاص، وذلك التردد والشغف بالمجهول، الذي يمكن أن ندعوه الفن.

في نهاية الفيلم، حينما ينجح إبراهيم في السيطرة على الأصوات وإخراجها للناس وجعلهم يسمعون الأصوات التي يسمعها، تكون النتيجة أن عمله كفن تخريبي "يكسر الدنيا" حرفياً، يهبط الضجيج على الأشرار ليطرحهم أرضاً، ويفتح طاقات في نفوس بقية الشخصيات. هكذا هو الفن في أنجح صورة، "يكسر الدنيا"، ويجعل الآخرين قادرين على رؤية العالم بشكل مختلف. وبعد أن يتعرض سكان الحارة لصدمة الأصوات، يستطيعون فجأة أن يروا "ندى" في أحلامهم، ويتمكنون من فهم طبيعة هذا الشغف/الحب/الفن الذي يعذب علي وإبراهيم.

يتخلص الفنان من عبء كبير حينما يطرح ما بداخله أخيراً، حتى وإن لم يرض عن النتيجة. لكن، في المقابل، لا يعود شغفه وإنتاجه الفني ملكاً له. يفقد السحر وجذوة الحب. لذلك، تختفي "ندى" من حياة علي في نهاية الفن، وتمسي أيقونة في الحارة يصنعون لها "البوسترات" والتماثيل، مثلما يستهلك الجمهور الفن ويسعى إلى تخليده وتذكره طالما أنه لمسه ورفع عنه الحجاب.

قدم شريف أخيراً فيلمه الروائي الطويل، بعد سنوات من الانتظار. تجربة خاصة، صورة وصوت فريدان، اختار مكوناتهما بعناية. لم يرضخ لشروط الصناعة، صمد حتى النهاية، بل قدم شروطاً جديدة قبلتها الصناعة. وفيما كان يصوّر الفيلم، قبل عامين، كان أبطال الفيلم أسماء صاعدة، والآن أصبحوا نجوماً يتسابق عليهم المنتجون. أحمد مجدي الصاعد للنجومية بقوة الصاروخ، وعلي صبحي الذي ستهبط له النجومية، وناهد السباعي غول التمثيل القادر على افتراس الكاميرا في أي مشهد. هو درس جديد لمحتكري الصناعة الذين يدعون أنهم يعرفون ما يريده الجمهور، ويتعاملون مع القلق وحيرة وشغف الفنان، مثلما تعامل ضابط الشرطة في الفيلم مع "الدبدوب" الذي يحمله علي، بريبة وشك وسخرية واستهزاء من أي مشاعر صادقة، ثم بالسكين لفتح بطن الدبدوب وإخراج حشوته.

موسيقى أحمد الصاوي، وشريط الصوت الذي صممه سيباستيان تيش، درس آخر في الحرفية السينمائية. فشريط الصوت هو نقطة الضعف واللعنة الأبدية للسينما المصرية منذ قديم الأزل وحتى الآن. وفي فيلم "علي مِعزَة وإبراهيم" لم يحرص شريف على تقديم درس في الحرفية والإخلاص لتقديم منتج عالي الجودة فحسب، بل قدم مغامرة فنية نوعية في اختيار الصاوي، وهو أحد الموسيقيين وعازفي العود التجريبيين الذين لم يأخذوا حقهم من الاهتمام النقدي أو التقديري الجماهيري. ومن دون الموسيقى وشريط الصوت المغامر، كان الفيلم ليقع في فخ التعاطف الميلودرامي، ليصبح مجرد فيلم عن قصة حب إنسان لمعزاة. لكن شريط الصوت ينسجم مع المشاهد ويفتح كمن داخلها أبواباً على المجهول، وعلى جذوة النار التي لا تخبو، لذلك الشغف الذي من دونه لا يمكن أن نغادر سريرنا في الصباح لنواجه هذا الواقع البائس. فنبدأ كل يوم، ونحن نبحث عن، أو ننتظر ظهور تلك المعزاة البيضاء في حياتنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها