السبت 2017/03/11

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

الفرعون في حماية سبايدر مان!

السبت 2017/03/11
increase حجم الخط decrease
أتخيل مواطناً أجنبياً قرر أن يتابع أخبار مصر لشهر واحد. ولأنه يتمنى زيارة البلد التي تضم ثلث آثار العالم -كما تقول مدارسها لا مدارسه- فإنه سيتابع فقط ما يخص الآثار المصرية.
سيعرف طبعاً أن نجم الكرة العالمي، ميسي، الساحر، حظي بشرف زيارة الأهرام، والتقط صوراً تذكارية معها، بل وطلب أن يلتقط صوراً مع خفير عامل هناك.

سيعرف بعدها أن نجم هوليوود، ويل سميث، حظي بالشرف نفسه، في الفترة نفسها، وأنه تجول في الأهرام، وزار المتحف المصري والتقط سيلفى مع توت عنخ آمون، ونشر صورته وهو يقبّل أبا الهول.

ستأتيه صور المستشارة الألمانية ميركل متأملة حجم الهرم الأكبر، وسيعرف أنها طلبت زيارة الأهرام رغم أن زيارتها لمصر لم تكن سوى بضع ساعات، وأنها زارت الهرم فعلاً بصحبه الرئيس المصري الذي احتفى بها هناك مشيراً إلى عظمة ما بناه أجداده في صور تناقلتها أشهر وسائل الإعلام في العالم.

سيعرف أيضاً أن زاهي حواس، عالم الآثار الشهير الذي اصطحب ميسي في زيارته التاريخية، وصفه بالأبله لأنه لم يكن متواضعاً مثل ويل سميث، ولم يمجد في الحضارة التي لم يكن يحلم بالتواجد في حضرتها، ولأنه لم يوافق على طلب المذيع الظريف بأن يقول "أنا بحب مصر"! والحق العالِم الشهير وصفه بالأبله لأنه لم يكن يرغب فعلاً في أن يكون أبلهاً.

لكن ذلك الحادث العارض لن يفسد بهجة المواطن الذي يستعد لزيارة مصر. فالأمور تبدو بخير، ويبدو أن السياحة بدأت فعلاً في استعادة عافيتها. لم يكن كل هؤلاء ليفكروا في وضع أقدامهم هناك لو أن الأمور ليست بخير. صحيح أن لكل منهم فريق أمني خاص، وصحيح أنه كانت هناك مبالغة في تأمين زيارة اللاعب الشهير، لكن ذلك مبرر أيضاً، والأهم أن الأمور مرت على خير.

سيعرف المواطن بعدها بأيام أن مصر على أعتاب كشف كبير، مدينة أثرية كاملة مطمورة بالطين، وغارقة في المياه الجوفية. فأي كنوز قد تظهر، وأي تغيير في مسار التاريخ قد يحدثه كشف بهذا الحجم؟ البيانات التي نقلت في أنحاء العالم، وبكل اللغات، كانت مبهجة، محفزة. فالكشف ربما يكون كاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون الذي غير مسار الأركيولوجيا في مصر بلا رجعة.

وزير الآثار يدعو وسائل الإعلام المصرية والعالمية لمتابعة الحدث على أرض الواقع، وأمام عيون العالم، تم انتشال تمثالين ملكيين من الأسرة الـ19، عثرت عليهما البعثة الأثرية المصرية الألمانية المشتركة العاملة في منطقة سوق الخميس (المطرية) بمنطقة عين شمس الأثرية. ويرجح أن التمثالين كانا في مقدمة معبد الملك رمسيس الثاني، الذي بناه في رحاب معابد الشمس في مدينة أون القديمة، والذي يعتقد بأن أجزاء كبيرة منه ما زالت مطمورة بالتراب.

رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار، د.محمود عفيفي، قال إن البعثة عثرت على الجزء العلوي من تمثال بالحجم الطبيعي للملك سيتي الثاني، مصنوع من الحجر الجيري، بطول حوالى 80 سنتمتراً، ويتميز بجودة الملامح والتفاصيل. أما التمثال الثاني فمن المرجح أن يكون للملك رمسيس الثاني، وهو تمثال مكسّر في أجزاء كبيرة من الكوارتزيت، ويبلغ طوله بالقاعدة حوالى ثمانية أمتار.  

وبحسب ترتيب المتحدثين في الوزارة، أشار د.أيمن عشماوي، رئيس الفريق المصري في البعثة، أنه جاري الآن استكمال أعمال البحث والتنقيب عن باقي أجزاء التمثال للتأكد من هوية صاحبه، حيث أن الأجزاء المكتشفة لا نقوش عليها يمكن أن تحدد هويته "لكن اكتشافه أمام بوابة معبد الملك رمسيس الثاني، يرجح أنه يعود إليه".

ووصف د.عشماوي هذا الكشف بأنه أحد أهم الاكتشافات الأثرية، إذ يدل على العظَمة التي كان عليها معبد أون في العصور القديمة، من حيث ضخامة المبنى والتماثيل التي كانت تزينه ودقة النقوش وجمالها. فمعبد أون، كان من أكبر المعابد في مصر القديمة، حيث بلغ حجمه، ضعف معبد الكرنك في مدينة الأقصر، لكنه تعرض للتدمير خلال العصور اليونانية الرومانية، ونُقل العديد من المسلاّت والتماثيل التي كانت تزينه إلى مدينة الإسكندرية وبعضها إلى أوروبا. كما استُخدمت حجارته في العصور الإسلامية لبناء القاهرة التاريخية.

د. ديترش راو، رئيس الفريق الألماني، قال إن البعثة تقوم حالياً باستخراج التمثال ونقله إلى موقع المسلّة لإجراء أعمال الترميم وإعادة التركيب المطلوبة لدراسة مدى إمكانية نقله إلى أحد المتاحف الكبرى.

المواطن الأجنبي، وربما وزير الآثار، كانا يتوقعان أن الحدث سيكون حديث العالم، وأن مصر لن تنام ليلتها لمتابعة البرامج التوك الحوارية التي ستبرز الحدث، وتوضحه وتشرحه، وتتوقع ما سيترتب عليه. لكن الأمور انقلبت في المساء. فتم تداول الصور.. لكن الحديث كان في اتجاه آخر.

المواطن الذي تابع الحدث، بالتأكيد ذهل، كما ذهل العالم للطريقة التي تكشف بها مصر عن آثار بهذا الحجم وتلك الأهمية: الفوضى تعم المكان، رافعات وأوناش، لا دليل واحداً على أن ما يحدث له علاقة بالعِلم أو التاريخ. بل على العكس، بدا الأمر وكأنه موقع بناء، أو غيط زراعي يواجه مشكلة مع المياه، وأخيراً يطل وجه الملك محمولاً على ونش! مشهد لن تنساه ذاكرة المتابعين حول العالم.

السخرية كانت الطريقة الأنجع للتعامل مع الأمر. اشتعلت مواقع التواصل. لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً، لا يمكن أن يكون هذا بلداً حقيقياً، لا يمكن أن يكون هؤلاء مسؤولين عن أي شيء، ولولا موجات السخرية ما كان لأحد أن يتحرك.. وليتهم لم يتحركوا.

فبعد رفع وجه الملك من الطين بالأوناش، وضعه "خبراء الآثار" على جانب الطريق، لعب معه الأطفال، وتبولت بجانبه الكلاب، في صور تداولها الناس على المواقع أيضاً. تحرك المسؤولون مساء اليوم التالي، فغطوا وجه الملك بملاءة تحمل رسوم سبايدر مان! لفوا الملك وكأنهم وجدوه في شقه دعارة!! أي عبث أكبر من ذلك؟!

لم تسكت وزارة الآثار، فنشرت بياناً آخر، رداً على ما تم تداوله في الصحف الإلكترونية وفايسبوك، بشأن استخدام رافعة آلية في رفع التمثال الذي اكتشف، فعاد لرئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار ليصرح بأنه لم يرفع التمثال، بل رُفع جزء من رأسه باستخدام الرافعة نظراً لثقل حجمه، وذلك بعد تدعيم الكتلة بواسطة العروق الخشبية وألواح الفلين لفصلها عن الجسم المعدني للرافعة (اللوحات المستخدمة كانت مما يوضع مع الأجهزة الكهربائية لحمايتها من الكسر!) كما تم رفعها مع كمية كبيرة من التربة الطينية التي كانت تحيط بها. أما عن باقي أجزاء التمثال فما زالت موجودة في الموقع وجاري دراسة كيفية رفعها!

واستطرد قائلاً إن الرفع تم تحت الإشراف المباشر من الأثريين والمرممين المصريين والألمان العاملين، في الموقع، وذلك نظراً لوجود التمثال غارقاً في المياه الجوفية بالأرض الطينية. وأكد رئيس البعثة الألمانية أن الجزء الذي رفع من التمثال لم يمس بسوء ولم يتعرض للخدش أو الكسر كما أشيع في مواقع التواصل الاجتماعي بل هو في حالة جيدة من الحفظ.

ولم تكتف بهذا، بل نشرت أيضاً بياناً لزاهي حواس، العالم الشهير والوزير الأسبق، بدأه بالتأكيد على أهمية الموقع والكشف، فقال إنه عمل فيه بنفسه من قبل، وأنه عثر بداخله على بقايا معابد للملك إخناتون والملك تحتمس الثالث والملك رمسيس الثاني، مشيداً بالطريقة التي تم بها التعامل مع الأثر! ولم ينس في النهاية أن يعبّر عن سعادته بالكشف الذي "أحدث دعاية كبيرة جداً في العالم أجمع"!

الوزير الذي دعا العالم لمشاهدة الكارثة يواجه حالياً بياناً عاجلاً أمام مجلس النواب المصري، لشرح الملابسات، ولا يعلم أحد ما تخبئه الأيام المقبلة.

أتخيل الآن شكل المواطن الأجنبي الذي حلم بزيارة مصر بعدما تحول الكشف المنتظر إلى فضيحة دولية. أتخيل أيضاً حيرته في المصريين أنفسهم. فمَن تداولوا صور جولات نجوم العالم في الآثار المصرية، كدليل على تقدير العالم لمصر وحضارتها ووعيها وأمنها بطبيعة الحال، هم أنفسهم مَن تداولوا صور الحدث الأخير كدليل على المسخرة!

وأتذكر مقولة وواليس بادج الذي لُقّب بـ"قرصان علماء المصريات" -كان مقتنعاً بفكرة أنه يهرب كنوز مصر إلى الخارج لصالحها- لأنها –للأسف- تصف الموقف بدقة: "كيف يمكن لأرواح ملوك مصر الموتى أن ترتاح وبقايا أجسادها تُعامل بهذه الخِسّة؟!"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها