الأربعاء 2017/02/08

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

رحيل تزفيتان تودوروف... الرديف الفرانكوفوني لنعوم تشومسكي

الأربعاء 2017/02/08
رحيل تزفيتان تودوروف... الرديف الفرانكوفوني لنعوم تشومسكي
المنظر الكوني
increase حجم الخط decrease
مع رحيل الباحث والمنظر البلغاري الاصل الفرنسي الجنسية، تزفيتان تودوروف (1939_ 2017)، تخسر الثقافة "الكونية" اذ جاز التعبير، ركناً بارزاً من أركانها وصناع أفكارها، وطالما كانت كتبه البحثية ومواضيعة الاختلافية ومفاهيمه، محط اهتمام النقاد والقراء وأصحاب وجهات النظر، وكونية تودوروف لأنها بأفكاره تخطى منطق الهويات والعصبيات والحدود والمركزيات الأوروبية والغربية، ويؤمن بأن جوهر الحضارة يكمن في الاعتراف بالإنسانية الكاملة وبالتعدد الثقافي للآخرين، ويقول "أنا أساسا إنسان ولست فرنسيا سوى بالصدفة"، وفي رأي الكاتب مارتن والاس: "يعد تودوروف، مترجم المقالات، أشمل النقاد البنيويين وأكثرهم نظامية وتظهر كتابته الخاصة عن السرد كيف يمكن دمج النظريات الروسية والفرنسية ... وهو يدمج كذلك النظريات النافذة لدى النقاد الإنجليز والأميركيين مظهرا علاقاتهم بالاهتمامات الأوروبية"... وشكل تودوروف مع جوليا كريستيفا ورولان بارت وجيرار جينيت وميخائيل باختين وامبرتو ايكو ورومان ياكوبسون وغيرهم، محطة مهمة في تاريخ الكتابة والنظريات الأدبية التي امتد تأثيرها الى العالم العربي، وان بوتيرة نخبوية. وتودوروف تحديداً كانت له حيثية فكرية وتشعبات هنا وهناك بسبب تنظيراته "الكونية"، فهو المنفي الآتي من بلغاريا العام 1963، في زمن النظام الشيوعي- السوفياتي، كان آتياً للدراسة في باريس، سرعان ما طلب اللجوء وعاش في بلاد الأفكار والتحولات. عدا ذلك التحق تودوروف في الجامعة ليحصل العام 1970 على دكتوراه دولة في الآداب، في مرحلة كانت فرنسا، تضح بالأفكار والأحلام، فهي الخارجة من موجة الثورة الطلابية العام 1968، كان مكنونها الثقافي بين وجودية سارتر ونفسانية جاك لاكان ونقدية رولان بارت ونسوية سيمون دي بوفوار، من دون أن ننسى "فتوحات" فوكو ودولوز وجان جينيه... وفي موازاة ذلك، كانت أوروبا الشرقية منبعاً لصعود الكثير من المثقفين المنشقين والكثير من "نجوم" الفكر والفلسفة، فمن رومانيا سيسطع يوجين يونيسكو وميرسيا إلياد وأميل سيوران، ومن بلغاريا الياس كانيتي، ومن تشيكيا ميلان كونديرا وكذا من بلدان اخرى.

أيضا كان تودوروف مهتماً بالباحثة الفرنسية المتخصصة في علم الجناس، جيريمان تييون، والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد. ساعدته أعمال الأولى على تفكيك الخطاب الاستعماري، فيما وفرت له دراسات الثاني حقلاً سياسيًا وأنثروبولوجيًا لتعميق المقاربة لمسألة الآخر بصفته صورة مبتكرة تنهل منها بسخاء الأيديولوجيا الاستعمارية. علاقة تودوروف بهاتين الشخصيتين ليست علاقة أكاديمية، بل "قرابة فكرية يتصاهر فيها العلمي بالسياسي" بحسب وصف أحدهم. رافق تودوروف جيرمان تييون في مشوارها الإثنولوجي الملتزم. كما وقف مناصرًا للقضية الفلسطينية وشعبها وشعرها...

وتدوردوف الذي قضى طفولته في بلغاريا يوقل "كلما عادت بي الذكريات إلى الماضي البعيد، إلاّ ووجدتني محاطاً بالكتب، لأن والدَيّ كانا يمتهنان الوراقة، وكانت الكتب تملأ علينا البيت. وكانا منهمكين باستمرار في تدبير أمر رفوف جديدة لتدكين هذه الأعداد الهائلة من الكتب. وفي انتظار إيجاد ذلك، كانت الكتب تتراكم في الغرف والممرات، مشكلة طغوات آيلة للسقوط. وإذا ما أردتُ المرور أجدني مضطراً إلى الزحف وسطها. وهكذا تعلمت القراءة بسرعة، وبدأت أقرأ بنهم شديد القصص الكلاسيكية الموجهة للشباب والمنشورة بتصرف، كألف ليلة وليلة وحكايات كريم وأندرسين وطوم سويير، وأوليفر تويست والبؤساء". هكذا امضى صاحب "فتح اميركا" طفولته بين أكوام من الكتب، الشيء الذي جعل انتسابه إلى كلية الآداب أمراً محتوماً "الكلام عن الكتب سيكون مهنتي".

انخرط تودوروف في زخم التيار من بوابة النقد الأدبي، خصوصاً تقديمه، ترجمته، وتحليله للشكلانيين الروس، الذين لعبت نظرياتهم في مجال التنظير الأدبي، سواء منه الشكلاني، الوظيفي، الإستيطيقي، دورًا إشعاعيًا بامتياز. وأول من قدم مصطلح narratologie وهو مصطلح يراد به علم السرد أو السرديات... ولم يكتف الراحل بتأسيس السرديات إلى جانب رولان بارت وجيرار جينيت، بل ألّف دراسات في الفلسفة والسياسة والأنثروبولوجيا والتاريخ... وساهم كتابه "الأدب والدلالة" في إعادة إحياء البلاغة. ومنذ صدورها أصبحت كتب تودوروف: "مدخل الى الأدب الفنتازي(العجائبي)" (1970)، "شعرية النثر" (1971)، "نظريات الرمز" (1977) من كلاسيكيات الدراسات الأدبية. لكن الحال تغير، بعدما أمضى عشرين عاماً يدرس بدقة متناهية الأشكال الدلالية، التي كان متحمساً لها للغاية. وشكلت الثمانينات من القرن الماضي منعطفًا حاسمًا في مسار تودوروف بعد ترهل المدارس النقدية التي اتبعها، إذ انكب على دراسة الظاهرة الاستعمارية، الاستشراقية وموقع الآخر في التصور الغربي لحظة اكتشاف أميركا أو إنشاء المستعمرات الأوروبية. خصوصاً في كتبه المهة "نحن والآخرون"، "فتح أميركا" (1982)، "مواجهة المتطرف: الحياة الأخلاقية في معسكرات الاعتقال" (1991)، "حول التنوع الإنساني" (1993)، "الحديقة المنقوصة: تركة الإنسانية" (2002)، "الأدب في خطر"، "الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات"، "أعداء الديموقراطية الحميمون".

عالج تودوروف في "فتح أميركا" رحلة كولومبوس الى القارة التي كانت مجهولة لدى الأوروبي، ليظهر أن تلك القارة كانت تنطوي على حضارة وثقافة، وعامرة بسكانها الأصليين مثل الآزتيك والإنكا والمايا وغيرهم. لم تكن مجهولة لدى سكانها، فما سُمّي "الاكتشاف" كان كذلك نسبة الى كولومبوس ومن يقف وراءه. فهذا "الاكتشاف" لم يكن - إذاً - سوى غزو أو "فتح". وبحسب فريال جبوري - في تقديمها الكتاب بترجمته العربية - فإن كلمة "اكتشاف" هي التي استخدمتها أوروبا التوسعية "حاملة في ثناياها إيديولوجية تضخم الذات الأوروبية، وتغييب الآخر اللاأوروبي. وإضافة إلى أن العام 1492 هو عام "اكتشاف" الآخر الذي أدى إلى القضاء على هذا الآخر، فقد كان أيضاً العام الذى بدأ فيه مسلسل طرد الآخر من أوروبا، وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة وبدأت أسبانيا حملة التطهير، ولهذا يمكن أن يقال أن العام 1492 هو عام القضاء الرسمى على التعددية فى أسبانيا وعام بداية اختراق الآخر عالمياً.  واعتمادًا على روايات الغالبين والمغلوبين في آن معًا من أجل فهم عملية الإزاحة والهيمنة وطمس الهوية التي حدثت للحضارات الاميركية، ومن هنا كانت عودة تودوروف إلى مئات من الوثائق المتضمنة مذكرات كولومبوس وكورتيس وشهادات شفاهية لهنود حمر وثَّقها بعض القساوسة الإسبان في كتاباتهم... إنَّ أسباب تفوق إسبانيا آنذاك لم تكن بسبب تفوق عسكري ولا عددي وإنَّما كان السبب أنَّ بعض حضارات العالم الجديد ومنها "الآزتيك" كانت منكفئة على نفسها...

وُصف تودوروف بالرديف الفرانكوفوني لنعوم تشومسكي، (الرجل الذي أتى هو الآخر من عالم اللغة، وتحديدا من حقل الألسنيات، ليصبح رمزاً للمناهضة الفكرية للأمبريالية)، واستمر في أبحاثة المثيرة للجدل. ففي كتابه "نحن والآخرون"، بحث في العلاقة بين "تنوع الشعوب والوحدة البشرية". فالشعوب تتنوع، لكن البشرية وحدة متكاملة، متكافئة. ويعتبر بقوله إن "سجاداً تقليدياً قد يكون أروع من لوحة تجريدية". في كتابه "الخوف من البرابرة.. ما وراء صدام الحضارات"، يتناول تودوروف تنامي شعور الخوف من الاجتياح الإسلامي، إن مادياً عبر قوافل الهجرة والتكاثر الديمغرافي بين المسلمين، أو رمزياً عبر القيم وأنماط الحياة الإسلامية التي ينظر إليها كتحدٍّ لمكتسبات الحضارة الغربية المتمثلة أساسا في حقوق الإنسان والحرية. يحذر من انتشار عدوى الرهاب من الإسلام والمسلمين، بوصفه يفتح باب الارتداد عن القيم الغربية نفسها ولو باسم الدفاع عنها. فالخوف يصبح خطراً بالنسبة إلى الذين يشعرون به... يحذر تودوروف من النتائج العكسية لسياسات الخوف من الإسلام، التي حرضت على شن حرب ضد الإرهاب والتطرف، تبين في النهاية أنها، وبالطريقة التي شنت بها، قوت مشاتل الإرهاب وأنعشت شبكاته.

في عمله "أعداء الديموقراطية الحميمون"، يختبر تزفيتان تودوروف، اللحظة التي غدت فيها الآثار المنحرفة للديموقراطية تُهدّد وجودها في حدّ ذاته. وفي كتابه "روح الأنوار"، يكتب "كل سكان المعمورة كائنات إنسانية. ما يجمع الناس أكثر أهمية مما يفرقهم"، ويستدعي مونتيسكيو في قوله: "أنا أساساً إنسان، ولست فرنسياً سوى بالصدفة"، وفي كتاب "الأدب في خطر" يكتب: "حينما أتساءل اليوم لماذا أحب الأدب، فإن الجواب الذي يراود ذهني تلقائياً هو: لأنه يساعدني أن أحيا... يتيح لي اكتشاف عوالم وفهمها". فالخطر الذي يتهدد الأدب، بحسب تودوروف، لا يأتي من الأيديولوجيا، ولا من انصراف القراء عن كتب الأدب، ولا من تكنولوجيا المعلومات المستجدة، وكذلك ليس من منافسة الأنواع والمجالات المعرفية الأخرى.. مصدر الخطر، وببساطة، مدارس النقد المعاصرة المهيمنة، التي عزلت الأدب عن الواقع وعن العالم. ويعتبر تودوروف ان الأدب يستطيع "أن يفعل الكثير. ويمكنه أن يمد لنا يد العون عندما نكون محبطين بعمق، ويقودنا نحو الكائنات الإنسانية الأخرى التي تُحيط بنا، وأن يجعلنا نفهم على نحو أفضل العالم، ويُساعدنا على العيش. وليس هذا لأنه يمثل تقنية لمعالجة الروح قبل كل شيء، فهو يستطيع ايضاً، في هذه الأثناء، أن يحول كل واحد منّا من داخله. ولذا، فإن للأدب دوراً جوهرياً يقوم به".

وكان تودوروف قد انتهى من كتابة آخر كتبه "انتصار الفنان" المرتقب صدوره في آذار/مارس المقبل، وهو صاحب مقولة "إن الخوف من البرابرة شعور يوشك أن يجعلنا نحن أنفسنا برابرة"، وكرّس كتابه "متمردون" للتمرد. يبين المؤرخ المعارك الفردية، بوصفها أشكالاً أخلاقية ملتزمة تنتهي بالقيام بدور سياسي في الفضاء العام. ومتمردو تودوروف "ليسوا غزاة"، ولا يبحثون عن إنشاء مجتمع مثالي، وإنما يرفضون "القوى التي تريد إخضاعهم".

بالطبع لا يمكن، في مقالة، استعراض لمحات عن أعمال كاتب موسوعي ومنظّر له أفكار مغايرة، ولقد تربى جيل ثقافي بكامله على نصوصه النقدية والنظرية مثل "شعرية السرد"، "ما البنيوية؟"، "نظرية الرمز"، "أجناس الخطاب"، وصولاً الى نظرته المختلفة في "فتح أميركا"، و"الأدب في خطر".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها