الأحد 2017/02/05

آخر تحديث: 11:21 (بيروت)

"غيمة" عبده وازن.. مُطارِد الأحلام وطريدُها

الأحد 2017/02/05
"غيمة" عبده وازن.. مُطارِد الأحلام وطريدُها
يكتب وازن عشرات الأحلام في صيغة أقرب إلى قصص قصيرة
increase حجم الخط decrease
يشكّل عالم الأحلام، ميدان اشتغال اللبناني عبده وازن في كتابه الجديد "غيمة أربطها بخيط"(*)، والذي لا يختار له تجنيساً معيّناً "قصة، رواية.."، يبقيه نصّاً مفتوحاً على القراءات والتأويلات، يجمع خيوط الشعر والسرد، وهي أحلام اليقظة والنوم معاً، كما يشير، يخرجها من حُلميّتها، يضعها على مسرح الحياة الواقعيّة حين يؤطّرها بالكتابة ويقيدها باللغة، يحرّرها من صُورها المنطلقة في الخيال، ويتخيلها واقعاً، ماضياً، أو مستقبلاً. 

يكتب وازن عشرات الأحلام في صيغة أقرب إلى قصص قصيرة، أو قصيرة جدّاً، يكون بطلها الأوحد الخيال الشعريّ المنطلق في أعماق الشاعر نفسه، يمنح منها ما عاشه في الحلم، وما تخيّله محلوماً به، يكثّف الصور ويفتح المجال للأنا كي تبوح بأحلامها التي تكون صدى اعترافات من جهة، وصوت الداخل المسكون بعوالم وشخصيّات كثيرة تصل حدّ التناقض في ما بينها أحياناً.

يستعيد وازن في كتابة ما قيل عن الحلم، سواء ما يشار إلى أنّه تفسير أو تأويل أو تعبير، وكيف قاربه العلماء والفلاسفة والأدباء من مناظيرهم المختلفة ومن زوايا معتمة بعيدة من بعضها البعض، لكنها تتكامل لتخرجه من العتمة التي تغلّفه، إلى النور الذي يتكحّل بحضوره الملوّن بعد تظهيره كصور مكتوبة ونثرٍ شِعريّ.

لا يسعى صاحب "قلب مفتوح" إلى تقديم بحث عن ماهيّة الأحلام وآليّاتها التي تتفاعل لتتراءى للمرء وتتجسد أمامه، أو تستمرّ معه، وتؤثّر فيه برغم عدم القدرة على الإحاطة بها. بل تراه يسبغ على الأحلام نفسها ألوان الحياة المتباينة، وكيف تتكامل في ما بينها لترسم صورة النقصان التي تظلّ تحاصر الإنسان في نومه وصحوه.

الحلم ملاذ الشاعر المنشود، منفاه الأثير، ملعبه غير المسوّر بجدران أو قيود، يقلب فيه الموازين، يجمع شخصيّات من عصور متباعدة، يؤالف بينها، يناجيها، يبحث في رؤاها وأحلامها بطريقته، يكون الحالم الواعي بأحلامه، يدوّن جزءاً من سيرته الحلميّة، تلك السيرة التي تتقاطع في أجزاء مع سيرته الذاتية، وتفترق في منعطفات حلميّة عنها، تكون تجسيداً لصور ورؤى أخرى تسكنه، أو يتهرّب من مواجهتها.

يدوّن مؤلف "غرفة أبي"، أحلامه، كوثائق معقلنة عصية على الإحاطة والتقييد، بحيث يكون الإطار اللغويّ أحد تجلّياتها. فالعالم اللاواعي الذي تحدث فيه، يتحوّل إلى واقع ملموس ينبغي نقله إلى الورق، وينبغي تمثيله وتجسيده. يكون الوعي بالحلم وباللاوعي نفسه، مثار إعجاب الحالم المعرّض نفسه لتجربة تأريض الصُّور الماضية في فراغ مشرّع على خيال متمرّد.

يشير وازن في مستهلّ كتابه إلى أنّه لا نهاية لنصوص كتابه، وأنّه قد يكتب يوماً نصوصاً تماثلها، ما دام شخصاً يحلم ويكتب أحلامه أو ما ينتقيه منها. ويلفت إلى أنّ كلّ النصوص التي يتضمّنها ما يصفه بالكتاب "المفتوح"، هي "أحلام أبصرتها في الليل أو أحلام يقظة، تلك التي يعمد المرء عادة إلى تخيّلها أو "صنعها"  في حال من شبه اليقظة، أو اليقظة الخدرة. إنّها نصوص أحلام عكفت على تدوينها طوال أعوام".

يطلق الكاتب أسئلة عديدة وهو يضع أحلامه بين أيدي قرّائه، منها: "هل تعني الأحلام-النصوص، القارئ حقاً؟ ماذا يعنيه أن يقرأ أحلاماً أبصرها شخص سواه؟ هل يجد فيها نفسه؟ هل يجد فيها، مثل صاحبها، نافذة تطلّ على عالم آخر متوهَّم وحقيقيّ؟". ويعترف أنّه عندما كان يكتب أحلامه، كان يخامره شعور بأنّه يكتب أجزاء أو مقاطع من سيرته الذاتيّة، لكن بطريقة لاواعية، مشرّعة على المصادفات والمفاجآت. يصفها بأنها سيرته الذاتيّة المجهولة، التي عاشها في ظلام الليل وعتمة الذات واللاوعي.

في القسم الثاني من كتابه، يخرج وازن من دائرة الأحلام المستعادة والاعترافات الحلمية، وكأنّه يكمل سرد قصصه، ليدخل عتبة عقلنة أحلامه بتقديم رؤاه عن هذا العالم المتشعّب. يكتب سيرته كحالِم، لا يفتأ يطارد أحلامه وينقلها إلى قرّائه، كأنّه بصدد إعادة اكتشافها أثناء تدوينها.  
يستذكر وازن آراء فلاسفة وعلماء أبحروا في هذا المجال وأحدثوا ثورات فيه، مثل فرويد ويونغ، ولا يخفي انتصاره ليونغ الذي أبدع في روحانيّاته وكتابته أحلامه وخرج عن سطوة معلّمه فرويد في ربط الحلم بالرغبة المحسوسة أو اللذة المفترضة المأمولة. كما يسترجع المقاربات الدينية للحلم، وتفاسير علماء كابن سيرين ونظرته ذات المركزيّة الدينيّة.

يستعيد الكاتب النظرة الشعبيّة للأحلام، والأساطير تغلّف عوالمها، سواء كانت حكايات الجدّات والأمّهات المتوارثة المتداولة، أو تلك الحكايات التي يشيعها المتديّنون في محاولة إحاطتهم بالأحلام وتوجيهها هذه الوجهة أو تلك. فقد توَصف بالرؤى، أو بأنّها أضغاث أحلام، ولكلّ توصيف مراده وما يستبطنه. أحدهما يشير إلى الخيّر والآخر إلى المدنّس، إلى المشتهى في حالة الرؤيا، والمتعوَّذ منه في حالة الحلم، تبعاً لبعض الشروحات ذات الجذر الدينيّ.

يؤكّد وازن أن الحلم ليس وجهاً من وجوه الحياة، بل هو الحياة نفسها، الحياة بصفتها حياة أخرى، حياة كاملة، حياة مضافة إلى الحياة. ويشير إلى أنه لا يستعير هنا مقولة غولدوني "الحياة حلم"، لكنّ هذا ما لمسه خلال أعوام، وما عاشه، من دون أن يبرّره أو يسعى إلى تأكيده. وقد يغدو الحلم مرسالاً يبثّ البهجة في روحه، أو قد يُكئبه ويدسّ أرقاً في كيانه، وذلك بصيغة لا يجد سبيلاً لتقنينها أو إخراجها من عالمها لتكون تحت سيطرة الوعي. الحلم يعيش معه كصديق، منذ طفولته ويفاعته وشبابه ونضجه، يستمرّ في زيارته. ورغم انقطاعه أحياناً، يحرص على إثراء ليله بالخيالات والآمال، وحتّى بالكوابيس التي تغيّر حالته.

النصوص المدوّنة تشتمل على بطولة مطلقة للأنا المتعقّلة الواعية بحلمها ويقظتها، أحلام هي أحوال النائم الحالم الصاحي، ونجد كثيراً من الأسماء حاضرة في أحلام الشاعر، منها مثلاً بورخيس، بسام حجار، سمير قصير، بول شاؤول، أنسي الحاج، عباس بيضون، علوية صبح، وغيرهم، يستحضر أصحابها الراحلين منهم والأحياء، يتداول معهم شؤون الحياة والكتابة والحلم.

يظلّ الشاعر يحلم في حلّه وترحاله، في ساعات الليل والنهار، يسترق أحلامه من فم الزمن الهارب، ويستذكر أوقاتاً استعصى عليه الحلم وتعذّر، وكيف وقع فريسة انعدام الحلم، واشتاق إليه بطريقته الخاصّة، وتراه ينوّه بأنّ الليل يفتح كنوزه له مثلما يفتحها لسواه، لكنّ الباب الذي يلج من عتبته مملكة الأحلام يختلف عن أبواب الآخرين.


(*) صدر عن دار نوفل في بيروت 2017. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها