الثلاثاء 2017/02/28

آخر تحديث: 11:48 (بيروت)

سعاد ماسي في بيروت: المكوث بالكلام بعد الرحيل بالحنين

الثلاثاء 2017/02/28
سعاد ماسي في بيروت: المكوث بالكلام بعد الرحيل بالحنين
ما ننسى أصلي، وحشت بلادي، وأرض جدادي
increase حجم الخط decrease
لم ينزل صوت سعاد ماسي، عند ذيوعه، على مسامع متلقي أغنياتها بلا أن تصاحبه صورة محددة عنها: الشابة الجزائرية التي هجرت بلدها الأول إلى فرنسا، حاملةً غيتارها، وفي جعبتها قدر من الموسيقى، التي حصلتها من منزل عائلتها في باب الواد، ومن دائرة رفاقها في الجزائر العاصمة. في تلك الفترة، كانت أشبه بالرُّحل، الذين، وفي معرض تنقلهم، ينشدون الأرض، التي مضوا منها، رغبةً في أخرى، حيث الوسع والغيث والخراج.


إسوةً بهم، راحت، ومن أغنية إلى ثانية، تسوي صلاتها بالبلد، الذي هجرته، وفي نبرتها شكلاً من أشكال الحنين، شوقه رقيق، ووحشته لطيفة، فلا يشتد على حاملته في مكانها الجديد، ولا يشدها إلى خلفه. إذ إنه حنين من نوع الوجع الذي لا بد منه، كأنه سبيل الوداع والملاقاة على حد سواء.

من تلك الصورة، صورة المرتحلة، طل ألبوم "رواي" (2001)، الذي دار بمجمله حول الإفتراق، فاتسم المغنى فيه بالشجن المعطوف على إيقاع السفر: "اني رايحة ما نولي، ما تزيد تشوف خيالي، من غدوا نهاجر لبلاد بعيدة". وفي إزاء الشجن، ظهر سؤال عن "الدنيا"، طرحته ماسي بوجهة "روك" بائنة، كأنها تلقي التحية على فرقة الروك الجزائرية، "أتاكور"، التي كانت قد انضمت إليها سابقاً. على متن صوتها، جالت ماسي بين أنغام الشعبي والفولك والفادو، خلطت حابل هذه الضروب الموسيقية بنابلها، فـ"لكي نرى"، بحسبها، "علينا أن ندخل في اللبس"، وفعلياً، دخلت في هذا اللبس، وزادت منه عبر ألسنتها ولكناته وعجماته، منفردةً بلغةٍ لا تستقر على حد إلا وتلحنه.

 
بقيت ماسي في صورتها تلك، وأطلت بألبومها الثاني Deb Heart Broken  2003، قالبةً شجنها إلى كشفٍ عن منشئها، الذي ظهّرته بتضاريسه كأنها تتحدث مع وجدانها، وتفصح عن مكنونه. ففي هذا الوجدان، هناك طواف في الصحارى والوديان والجبال، وهناك شكوى من الغياب ووحدته، وهناك تبرم من جرح العيش، وهناك حديث مع المعشوق، وهناك حكمة عن الخير والشر، وفي آخر هذا الوجدان، هناك دعوة إلى إغلاق "باب الماضي"، والتمسك بالحال بعد امتزاجها بسواها:"إنت خليك في حالك و انا خليني في حالي. كل واحد و طريقو باب الماضي نغلقو".

 
بعد رحلتها في وجدانها، بدّلت ماسي صورتها، التي استحالت إطاراً لوجهها بلا غيتارها، فقد بلغت المرتحلة رجاءها، وها هي تطل بـ"مسك الليل" (2005)، حيث أكملت قصتها، مركزةً إياها على ذاتها في مواقف متصلة بالإنخراط في "دنيا وزمان" لاحقين على غربة، وسابقين على إستدعاء للأصل: "ما ننسى أصلي، وحشت بلادي، وأرض جدادي". وفي جوار استذكار الأصل درءاً لنكرانه، ثمة دعوة إلى التعرف، بالبكاء حصراً، على "ناس" البحر واللعب والضحك: "شوف ناس كيفاش زاهيا، شوف الناس كيفاش تلعب... خلوني خلوني نبكي على زهري". فوجه ماسي في ألبومها الثالث كان ليلياً، بحيث انشغل بهموم قديمة، تبددها عنه الموسيقى، لا سيما حين تكون فجرية في نهاية بعض الأغنيات، وذلك، نظراً إلى بزوغ إيقاعها ورشاقته. فمطلع المغنى خلال الليل يحل في خاتمة عتمته وقتامة هواجسه.
 


في العام 2010، تلاشى الليل، وحينها، بدا ألبوم "الحرية"، الذي ما عادت فيه ماسي وجهاً مهموماً بالرحيل وبعده، بل إنها وقفت في مشهد طبيعي، وبين كفّيها أوراق الشجر، متكلمةً عن سميرة مسكينة التي يحتجزها مجتمعها في المنزل، مانعاً إياها من مغادرته لأنها امرأة. فقد تميز "الحرية" بأن موضوعة الإنعتاق فيه تلوح من أغنية إلى أخرى، إذ تعمد ماسي إلى تناولها بميلها الصوتي والموسيقي إلى البلوز والكاونتري-بوب، مع أخذها باللغة الفرنسية "لكي تشكر بلدها الثاني". جاء هذا الألبوم الرابع كترسيخ لأسلوب المغنية، وابتعاد عنه أيضاً. فبحسب ملاحظة تناقلها متابعوها حين استمعوا إلى أغنياتها الجديدة، ظهرت ماسي كأنها تقلع عن مسارها الذي انطبع بصوت الشقاق ونبرته، كما لو أن رحيلها انتهى، وشرعت في مكوثها، أو بالأحرى في جعله أكثر تماسكاً. 


على أن ماسي عادت إلى ما قبل الرحيل والمكوث. ففي العام 2015، أطلت بألبومها الخامس "المتكلمون"، الذي غنت فيه قصائد لمجموعة من شعراء اللغة العربية من العصر "الجاهلي" إلى القرن العشرين، من امرؤ القيس إلى إيليا أبو ماضي، وغيرهما طبعاً. بالتالي، كانت ماسي، خلال الأغنيات، ناطقة بالفصاحة العربية ولحنها المشكول أكثر مما كانت مطربة، بحيث أنها وضعت صوتها في خدمة النص، ونبرتها في خدمة وقعه، ما أدى بها إلى الضمور أمامه، كأنها، وحين أدته، لم تعد "تدرِي" من أين أتت إليه. ففي "المتكلمون"، انسحب أسلوب ماسي لصالح النص ووطأته، أما، الموسيقى، فبدورها، تفاوتت، وبهذا، مرةً، كانت متألقة، كما في أغنية "فيا ليلى"، ومرةً، تترك جريانها لإثر الكلمات فيها، كما في "البلبل". ذلك، مع الإشارة إلى ماسي في إحدى مقابلاتها شددت على كون المثير للإهتمام في الغناء ليس الكلمات بل "نبضات القلب"، والأخيرة، كان خفوتها جلياً في "المتكلمون".


من صورة المرتحلة  إلى نص المتكلمة وحظوته عليها، ومن تصويت الحنين إلى النطق بالقصيدة، تبدلت سعاد ماسي، مرسخةً تجربة موسيقية، ذهبت إليها بعدما تخلت عن مهنة الهندسة المدنية، التي كانت قد درستها أكاديمياً، وبعدما قاست من أجلها: "راني عايشه كا للي في المنام، مرة نام و مرة نكدب، قالولي مع الوقت كل شي يبان، اللي يبيع منام يقوللي".


(*) ستكون بيروت على موعد مع  سعاد ماسي في حفلة موسيقية، تقدمها في "ميوزيك هول"، في الخامس من آذار/مارس 2017.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها