الأحد 2017/02/26

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

درس وجيه نحلة

الأحد 2017/02/26
درس وجيه نحلة
لم يكن نحلة، وعلى طول رسمه المباشر في مرئيته، يأبه للمحملقين فيه
increase حجم الخط decrease
حين كان أحدهم يستفهم من الفنان الراحل وجيه نحلة عن الرسم مباشرةً على مرأى أغياره، أكانوا متفرجين أو صحباً، كان يردد أنه لا يخاف. إذ لم يجد في الرسم طقساً انفرادياً تاماً، يمارسه في صومعةٍ، أو حجرة تنسك، مانعاً أياً كان عن الدنو منه، أو الإقتراب، لأنه قد يقطعه. فليس الرسم موضوع كتمان أو إخفاء، يستلزم إبعاده عن الأنظار المحيطة به، على إعتقاد أنها تشكل بالضرورة خطراً عليه، جراء أنها قد تعمد إلى إفشاء سره وإذاعته، وبالتالي، لا يعود قواماً لفاعله، أو ملاذاً للمقيم به. لا شيء في الرسم، بحسب نحلة، يحتاج إلى الستر، ولا شيء فيه يحتاج إلى الإستسرار، كل شيء جلي وصريح، ومع ذلك، لا العين توقفه، ولا المراقبة تضنيه. 

وثق نحلة في فنه، ووثق بكون هؤلاء، الذين يحملقون فيه عن كثب في حين رسمه، لا يقدرون، وأياً كانت حملقتهم ثاقبة ونافذة، على التسلل إلى صميمه. أمامهم، يحمل فُرشاته، ويشرع في إلقاء ألوانه، ومسحها على القماشة، التي، ولأنها بيضاء، تكون بدايةً مملوءة بعيونهم. بسرعة، يربك هذه العيون، وبسرعة، يغمضها، وبسرعة، يلتقي بالقماشة وجهاً لوجه، يداً لسطح، ويمضي في تبديلها، وزخرفتها، وتنميقها، كأنه يسحب مشهداً كامناً فيها، وكأن ضربات الفرشاة تبدي هذا المشهد، ولطخاتها تبرزه: إنه مشهد مؤلف بإزالة العيون التي سبقته إلى قماشته. 

لم يكن نحلة، وعلى طول رسمه المباشر في مرئيته، يأبه للمحملقين فيه، لأنه، وببساطة، لا يحدق في نفسه، ولا يرصدها، عندما يخطّ ويلون. ولا يعني إفلات النفس، هنا، تركها تتداعى، ولا حملها على سهوها، بقدر ما يعني إخلائها على سبيل جسدي، بعضوٍ محدد، وهو اليد، التي تطلق سراح حركتها بلا عاقبة. لقد بلغ نحلة أوج اليديوية في رسمه، حيث تظهر يده متملصةً من عينه، إلى درجة شبه ميكانيكية، فلا تخضع لها، ولا تشتغل حسب بصرها، بل إنها، على العكس تماماً، تكاد تنفصل كلياً عنها، فتعميها، وتغلقها. يد تتمرد على العين، يد تنجو من العين، ويد تتخلص من العين، ويد تشق طرقاتها الصلبة والخفيفة، المستقيمة والمائلة، على القماشة ضد العين.

هل تذكرون تلك العبارة، التي يفتح بها بعض الكتّاب نصوصهم: "ها أنا أبدأ بالكتابة شاعراً بارتجاف يدي"؟ رسم وجيه نحلة هو الأخذ بهذا الشعور، بهذا الإرتجاف، والمضي به إلى أقصاه، حيث تنسلخ اليد عن سلطة العين، وتسير وحدها على القماشة، فلا تترك مجالاً ووقتاً لفنانها، أو للمتفرجين عليه، أن يقبضوا عليها ببصرهم. فأول الرسم هو ارتجاف اليد، نتيجة سلطة العين عليها، وما ان تتمكن من قماشتها، حتى تنفك عن جسدها، وتروح وحيدةً بدونه.

ثمة معادلة بينهما، معادلة بين اليد والجسد، مفادها: كلما أعرض هذا الجسد عن محاولة الإلتئام بواسطة عينه باليد في حين ذهابها وإيابها على القماشة، تضمن هذه اليد لامرئيته حيال المحملقين فيه، ورسمه. فعندها، يستطيع أن يقول: "لا أخاف، فلست أنا من يرسم، بل يدي من تلقائها"، ومن الممكن أن يضيف: "وهذا شأنها، وليس شأني". فوجيه نحلة رسام اليد، التي تجعله لامرئياً على مرأى المحيطين به.

الكثير من الرسامين، أو حتى الكتّاب، لا يقدرون على رسمهم أو كتابتهم حينما ينتبهون إلى متفرّج عليهم، أو مُحملق فيهم، أو مَن يشاهدهم، ولو من بعيد. ذلك، أنهم يعتقدون بأن عينه بمثابة خطر عليهم، تشلهم، وتغلطهم، وكل هذا، لأنها تكشف سرهم، الذي يسعون إلى ممارسته. فهم يجدون أن الفن هو السر، الذي لا يستقر سوى بمضاعفة إبطانه، وإضماره، إذ يمضي صاحبه إلى دفنه، وهذا، ما يودي به إلى أمرين. من ناحية، يغذي أناه، ومن ناحية أخرى، يمتن توجسه من غيره، الذي يجد فيه طامحاً دائماً إلى الكشف عن سره. الفن، في هذا السياق، هو فعل نرجسي مشوه لأنه لا يقوم سوى بالخوف من الغير، بإبعاده عن السر، الذي يستحيل غلطةً، إماطة اللثام عنها ترادف المعاقبة عليها. فممارسة الفن، أي كان، كسره يجعله مسكوناً بالخوف، ويجعل فنانه مملوءاً بالرهبة: "أنظروا، أنظروا، أنا أقبض على السر"، وما أن ينظروا حتى يقول:"ابتعدوا، ابتعدوا، فأنتم تسعون خلف هذا السر". يرغب في عيونهم برفضها، وينفي عيونهم عنه لأنه يبغيها.

وهذا هو درس وجيه نحلة: الفن ليس سراً بل سيرورة، يديوية أو غيرها، وليس إنعزالاً عن العيون بل صناعة للامرئية على مرأى العيون كلها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها